بقلم: مارك روبنشتاين*
داخل كل بنك، هناك صندوق تحوط يتوق للانطلاق، ومن المفترض أن تقدم نتائج أعمال الربع الثالث التي تصدر حالياً، نظرة على أدائها.
تضخمت محافظ الأوراق المالية لدى البنوك الأميركية خلال الوباء، إذ زادت الودائع بفضل الدعم الحكومي للأسر والشركات. وفي ظل عدم وجود طلب كافٍ على القروض لامتصاص التدفقات، ذهب الفائض إلى أذرع الاستثمار الداخلية في البنوك لإدارته. وبين كل 100 دولار دخلت النظام عبر الودائع منذ نهاية 2019، اتجهت 35 دولاراً فقط إلى الإقراض التقليدي، والباقي ذهب إلى المحافظ الاستثمارية للبنوك.
تمتلك البنوك الأميركية حالياً أوراقاً مالية بقيمة 5.66 تريليون دولار في مراكزها المالية، إلى جانب سيولة غير مستثمَرة بـ3.19 تريليون دولار، وفق بيانات الاحتياطي الفيدرالي. وتشمل حيازاتها سندات الخزانة الأميركية، والسندات الحكومية الأجنبية، وسندات الوكالات والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري، وسندات الشركات وغيرها.
في الماضي، كانت هذه المحافظ تثير المشاكل من حين إلى آخر. فقبل عشر سنوات، تضررت سمعة متداول معروف باسم “حوت لندن” بعد تسبّبه بخسائر فادحة لـ”جيه بي مورغان تشيس آند كو”. وكان واحد من 140 متداولاً يعملون في مكتب الاستثمار الرئيسي للشركة ويديرون محفظة بقيمة 350 مليار دولار. بعد هذه الواقعة، ضم البنك المكتب إلى عمليات إدارة الخزينة الأوسع نطاقاً، وشدّد إدارة المخاطر، لكن المحفظة استمرت في النمو، وتبلغ قيمتها الآن 617 مليار دولار.
تحديات عديدة
اليوم، يواجه مديرو هذه المحافظ عدداً من التحديات.
أولاً، التعامل مع آفاق أسعار فائدة غير واضحة. لسوء الحظ، حدثت معظم التدفقات الداخلة للبنوك خلال فترة انخفاض الفائدة، ما عرّض المديرين لمعضلة إما شراء السندات وتحقيق عوائد منخفضة، أو الانتظار حتى تتحسن العوائد.
يبرز “فيفث ثيرد بنك كورب” (Fifth Third Bancorp) كمثال لذلك. فقد ترك البنك لوقت طويل فائضه من الودائع على شكل سيولة. وقال المدير المالي، جيمي ليونارد، في بداية 2021: “نستطيع تحمل تكلفة الصبر”. وبعد شهرين قال: “نعتقد أن 2% أو أي نقطة دخول أخرى أفضل للسوق ستكون جذابة بما فيه الكفاية لأن نبدأ في توظيف رأسمالنا”.
أخيراً، مع وصول العائدات إلى تلك المستويات في أوائل عام 2022، بدأ ليونارد توظيف الأموال، واستثمر 19 مليار دولار خلال النصف الأول من العام، حتى أنه عجّل بعمليات الشراء المخطط لها في النصف الثاني من العام، “نظراً لنقاط الدخول الجذابة في أواخر مايو ويونيو”. وفيما يتراوح العائد الآن على السندات الأميركية لأجل 10 سنوات حول 4% مع انخفاض أسعار السندات، يتكبّد البنك حالياً خسائر في محفظته، وربما كان من الأفضل الانتظار.
شفافية أقل
البنوك الأخرى أقل شفافية في ما يتعلق بكيفية تفاعلها مع السوق. وعندما سُئل جيمي ديمون، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لـ”جيه بي مورغان” خلال الإعلان عن نتائج الأعمال في يوليو عن كيفية إدارته لمحفظته للتكيف مع آفاق الفائدة، قال: “سنحتفظ بالإجابة لأنفسنا”.
هناك تحدٍ آخر يتمثل في كيفية تخصيص الأوراق المالية بين محفظتين مختلفتين تتمتعان بمعاملة محاسبية مختلفة. يمكن للبنوك الاحتفاظ بالأوراق المالية في وعاء “محتفظ بها لأجل الاستحقاق” (HTM) الذي يمنعها من البيع، أو وعاء “متاح للبيع” (AFS) الذي يسمح لها بتداول المراكز. وميزة وعاء “متاح للبيع” هو أنه يوفر المزيد من المرونة في بيئة تتغير فيها الفائدة، لكن عيبه هو أن الخسائر يجب تحديدها حسب القيمة العادلة في السوق وخصمها من قاعدة رأسمال البنك.
خسائر قياسية
بالنظر إلى انهيار أسعار الأوراق المالية والأحجام الهائلة لمحافظها، تتكبد البنوك حالياً خسائر سوقية قياسية. فقد بلغت الخسائر غير المحققة التي طالت رؤوس أموال البنوك 253 مليار دولار في نهاية يونيو، وفق بيانات شركة تأمين الودائع الفيدرالية.
في محاولة لحفظ رأس المال، حوّل العديد من البنوك الأصول بعيداً عن وعاء “متاح للبيع” إلى وعاء “محتفظ به لأجل الاستحقاق”. وبنهاية يونيو، كانت 44% من الأوراق المالية المملوكة للنظام المصرفي في وعاء “محتفظ بها لأجل الاستحقاق”، مقابل 20% إلى 25% قبل عام 2021. وبالنسبة إلى البنوك الأكبر، كان التحوّل أضخم. فمنذ بداية 2020، نقل “جيه بي مورغان” 342 مليار دولار من الأوراق المالية الاستثمارية من وعاء “متاح للبيع” إلى “محتفظ به لأجل الاستحقاق”. وسأل ديمون المحللين خلال مناقشة الأرباح قبل عامين: “ينبغي أن تطرحوا أيضاً سؤالاً حول سبب لماذا يقلل نقل شيء ما إلى وعاء “محتفظ به لأجل الاستحقاق” من “رأس المال المطلوب وفق اختبارات تحمل الضغط. والتساؤل إن كان مثل هذا الأمر عقلاني أم لا؟ وهو ما لا أعتقد أنه كذلك”.
أكثر تقلباً لكن صادقة
تتفق معه البنوك الأخرى، والبعض، مثل “فيفث ثيرد”، و”كوميريكا إنك” (.Comerica Inc)، و”زيونس بانكورب” (Zions Bancorp)، لا تستخدم وعاء “محتفظ به لأجل الاستحقاق” على الإطلاق. وبالتالي تكون نسب رأسمالها أكثر تقلباً، لكنها أكثر صدقاً. وفي الواقع، إذا أضفنا الخسائر الخفية على المحافظ “المحتفظ بها لأجل الاستحقاق”، سترتفع خسائر المحافظ الاستثمارية والأوراق المالية للقطاع إلى 470 مليار دولار.
لكن ماذا يحدث عندما يريد المودعون استعادة أموالهم؟ هناك علامات على أن ذلك بدأ يحدث. في سبتمبر، انخفضت الودائع بنسبة 9.1% على أساس سنوي، ومع زيادة حجم القروض بنسبة 9.4% على أساس سنوي، يمكن أن تغادر تلك الودائع الزائدة بقدر سرعة وصولها.
بالنسبة إلى النظام ككل، لا تزال نسبة القروض إلى الودائع جيدة عند 65% لكنها أقل بكثير من متوسط الـ50 عاماً البالغ 82%، ولكن يبدو أنها ربما تكون قد وصلت إلى نقطة القاع. وبقدر السيولة المحتجزة في محافظ “محتفظ بها لأجل الاستحقاق”، يكون حجم المشكلة.
لدى بنك “فيرست ريبابليك” (First Republic Bank)، تبلغ نسبة الودائع إلى القروض 92%، لكن عند إضافة الأوراق المالية المعقدة المحتفظ بها حتى تاريخ الاستحقاق، ترتفع النسبة فوق 100%. وقد بيعت أسهم البنك بحدة الأسبوع الماضي عندما حذّر من أن تمويل القروض التكميلية قد يزداد تكلفة.
يواجه جميع مستثمري السندات أسئلة حول استراتيجية المراكز الاستثمارية، وتوقيت السوق، وعمليات الاسترداد من قِبل العملاء. والبنوك ليست استثناء، لكن بالنسبة إليها، التحديات أكبر من أي وقت مضى.
* مدير صندوق تحوّط سابق