تقرير خاص – يمن إيكو
بين 26 مارس 2015 حين بدأ التحالف بقيادة الرياض عملياته العسكرية في اليمن، و15 سبتمبر حين قرر الرئيس المقال هادي ومن ورائه التحالف وأمريكا نقل عمليات البنك المركزي اليمني إلى عدن. كانت كل أدوات ووسائل التحالف ومن ورائه عواصم الدول العشر قد استنفدت فاعليتها في تبرير الحرب وتغطية أهدافها المضمرة، بشعارات وأهداف معلنة لتزييف حقائق جرائم الحرب بحق الشعب اليمني للرأي العام العالمي.
اليوم وبعد 6 سنوات من ذلك القرار غير المشروع، تظل القراءات حول الآثار والتداعيات القاسية على دورة الاقتصاد اليمني اليومية والشهرية والسنوية قاصرة، ما لم تذهب في البدء إلى خلفياته، ولماذا اتسم بعدم المشروعية؟ وكيف تجلت المؤامرة الأمريكية في صناعته؟ وما الهدف من
وراء القرار؟ وما آثاره على الاقتصاد والقدرة الشرائية للمواطن؟ وما علاقته باختلال المنظومة السعرية للغذاء والوقود والدواء؟
خلفيات القرار
تجلت أهداف الحرب التي قامت أساساً بقرار أٌعلن من واشطن، بأنها ليست عملية عسكرية خاطفة لإعادة الشرعية- كما كان يصوره الإعلام الموالي للتحالف- بل اقتصادية بحتة، فقد استهدفت من أول طلعة جوية كل موانئ ومطارات ومنافذ اليمن ومقدراتها الصناعية وحركتها التجارية، عبر خنق
الصادرات والواردات عن 30 مليون نسمة.
ومع استمرار تماسك الاقتصاد اليمني ومؤسسات الدولة الإدارية والإنتاجية خلال الأشهر الـ18 الأولى من الحرب، انكسرت تلك الصورة الوهمية لنظرية السيطرة الكاملة على الموارد الكامنة والموقع الاستراتيجي للبلاد- التي طحنتها الأزمات والصراعات، عبر حرب لا تتجاوز أسبوعاً- وبدا ذلك مستحيلاً، فبدأ التحالف مرحلة علنية من استخدام الورقة الاقتصادية وتخطيط أمريكي بحت.
وتبعاً لذلك، سعت واشنطن علنياً لفرض اشتراطات تضمن ديمومة حضورها في القرار اليمني، وتبعاً لذلك في ثروات البلاد، وعندما وصلت إلى طريق مسدود، لوح سفيرها بورقة الاقتصاد، مهدداً بإيصال العملة اليمنية إلى مستوى لا تساوي قيمة الحبر الذي طبعت به، في حال عدم قبول وفد حكومة صنعاء المفاوض في الكويت منتصف عام 2016م.
انتفاء مشروعية القرار
ليس غريباً أن يكون قرار نقل عمليات البنك المركزي، الذي أعلن أمام الأمم المتحدة في الـ15 من سبتمبر 2016م، قراراً غير شرعي، دستورياً وقانونياً وسيادياً، فالتهديد الأميركي الصريح للعملة اليمنية يعد تدخلاً سافراً في سيادة البلاد المالية والبنكية، وكان كفيلاً بنسف مشروعية ذلك القرار، فضلاً عن انتفاء شرعية من أصدره وهو الرئيس هادي المستقيل والمنتهية ولايته الدستورية والقانونية والسياسية منذ 21 فبراير 2014م.
فدستورياً، نصت المادة (157) من الدستور النافذ على أن “مدينــة صنعــاء هـي عاصمـة الجمهوريــة اليمنيــة، وقانونياً نصت المادة (4) من قانون البنك المركزي على أن “يكون المركز الرئيسي للبنك مدينة صنعاء لتسيير أعماله داخل الجمهورية وخارجها، وله أن يفتح فروعاً ووكالات ومكاتب ويتخذ لـه مراسلين بناءً على موافقة المجلس”.
انتفاء مشروعية القرار لا تتجسد في مخالفته الواضحة للدستور والقوانين فحسب، بل وفي انتفاء مشروعية من أصدره، وفي تعارضه الواضع مع مصالح قرابة 80% من اليمنيين في الداخل والخارج، لذا فقد قوبل القرار برفض شعبي واسع شمل كل المحافظات اليمنية، واعتبرت حكومة صنعاء القرار نقطة تحول علنية باتجاه الحرب الاقتصادية التي خطط لها وأدارها حتى اللحظة تحالف الرباعية الدولي (أمريكا وبريطانيا والسعودية والإمارات).
الآثار الاقتصادية للقرار
كانت أول التداعيات الكارثية لقرار نقل وظائف أو عمليات البنك المركزي إلى عدن، انقطاع الرواتب عن 1.25 مليون موظف حكومي يعيلون- وفق الدراسات السكانية- ما نسبته 35% من سكان اليمن، ما أحدث عجزاً كبيراً في دخل الأسر المعتمدة على الرواتب جعلها غير قادرة على توفير الغذاء والدواء وغيرها من وسائل العيش الضرورية، بعد أن ظل البنك المركزي يسلم الرواتب من صنعاء لكافة الموظفين على مدى 18 شهراً من الحرب والحصار.
وبما أن العملة الوطنية كانت هي الهدف الرئيس من قرار نقل البنك الذي جاء ترجمة لتهديدات السفير الأمريكي، فإنها كانت الأكثر تضرراً بفعل الممارسات غير القانونية التي تلت قرار النقل، حيث اتجهت الحكومة المعترف بها دولياً لطباعة ما يقارب تريليوني ريال يمني من العملة الجديدة غير القانونية والمزيفة، وإغراق السوق بدفعات مليارية منها، مثلت عاملاً حاسماً في زيادة التضخم النقدي في مناطق سيطرة التحالف.
وتبعاً لتلك الممارسات انهارت قيمة الريال اليمني أمام العملات الصعبة من 250 ريالاً للدولار الواحد قبل القرار في سبتمبر 2016م إلى قرابة 1750 في نوفمبر 2021م، في مناطق سيطرة التحالف، وانهارت معه القيمة النقدية لمدخرات المواطنين مصيبة قدراتهم الشرائية في مقتل، بينما استقر سعر الدولار في مناطق حكومة صنعاء عند 600 ريال للدولار، بفضل قرار البنك المركزي بصنعاء منع تداول العملة غير القانونية في تلك المناطق.
الأخطر في القرار المدعوم من الإدارة الأمريكية، أنه ترجم إرادة التحالف في عزل الإيرادات النفطية والغازية عن المركز، ليسهل له السيطرة عليها وتوريدها إلى البنك الأهلي السعودي، وتزمن مع ذلك فساد مستشرٍ في الحكومة المعترف بها دولياً وبنكها المركزي، طال احتياطيات البنك من الودائع الأجنبية التي جرى تبديدها إلى جانب تبديد الأرصدة اليمنية في الخارج من العملة الصعبة التي مُنحت الحكومة المعترف بها دولياً حق التصرف بها، بتواطؤ من واشنطن ومؤسسات النقد الدولي التابعة لها.
وقرر صندوق النقد الدولي في أغسطس 2021م منح الحكومة المعترف بها دولياً حق التصرف بمخصص وحدات حقوق السحب البالغة (665) مليون دولار من الأرصدة اليمنية، وفي سبتمبر من العام نفسه قرر بنك أوف إنجلترا الإفراج عن أرصدة الجمهورية اليمنية المجمدة لدى بنكها
المركزي منذ عام 2016م والبالغة نحو (82) مليون جنيه إسترليني تعادل 110 ملايين دولار.
هذا الاستنزاف المتواصل أفضى، حسب الدراسات الاقتصادية، إلى انخفاض الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي اليمني إلى 0.5 مليار دولار في ديسمبر 2021م، من 2.085 مليار دولار في نهاية ديسمبر 2015م، وفق وكالة رويترز، عن وثيقة رسمية صادرة عن البنك المركزي، وانخفضت الأصول الخارجية للبنوك التجارية والإسلامية اليمنية إلى 971 مليار ريال يمني، بسعر صرف (1000ريال/دولار) من 504 مليارات
ريال يمني، ما يعادل 2.346 مليار دولار في العام بسعر صرف (215 ريالاً/دولار) بنهاية 2015م.
تراكم الدين العام
إن تداعيات قرار نقل وظائف البنك المركزي لم تتوقف عند ذلك الحد، بل تجاوزته إلى التسبب في مراكمة المديونية المستحقة للغير على اليمن، فخلال سبتمبر 2016 إلى نهاية يونيو 2022م شهد الدين العام (الداخلي والخارجي) تصاعداً مستمراً ليصل إلى مستوى عالٍ غير مسبوق في تاريخه، حيث شهد الدين العام الداخلي بصفة عامة تطورات متسارعة بلغت معها قيمته الإجمالية نحو 3.449 تريليون ريال يمني. وفق تقرير البنك المركزي بعدن النصف سنوي الصادر مؤخراً عن الفترة (يناير – يونيو 2022).
وأكدت دراسة اقتصادية حديثة أن التزامات البنك المركزي اليمني-عدن للقطاع المصرفي بلغت 2.502 تريليون ريال يمني، موزعة بين 1.798 تريليون يمني (أذون خزانة)، و704 مليارات الاحتياطيات القانونية للبنوك التجارية والإسلامية في البنك المركزي.
أما الديون الخارجية فقد ارتفعت بشكل مخيف سيثقل كاهل الأجيال اليمنية في المستقل، حيث بلغ إجمالي تلك الديون في الوقت الراهن ما يقارب 10 مليارات دولار، وفق تقارير صادرة عن الحكومة المعترف بها دولياً.
خلاصة القول: تتجسد التداعيات الأهم لقرار نقل عمليات البنك المركزي، فيما أشار إليه تقرير مجموعة الأزمات الدولية- الصادر في نهاية فبراير الماضي- مؤكداً أن انقسام البنك المركزي إلى سلطتين متنافستين في صنعاء وعدن، تسبب في الانخفاض الحاد في قيمة الريال بالمناطق الخاضعة للسيطرة الاسمية للحكومة، حسب تعبيره، مشيراً إلى أن ذلك الانخفاض أدى إلى ارتفاع أسعار الضروريات المستوردة مثل الأغذية والوقود إلى أن أصبحت تتجاوز قدرة كثير من اليمنيين. ونتج عن ذلك، ما تقول الأمم المتحدة إنها إحدى أكبر الأزمات الإنسانية في العالم.