تقرير خاص-يمن إيكو
مع انخراط الطلاب إلى مدارسهم في العاصمة صنعاء، وتحديداً في حي معين شارع مذبح، صباح اليوم الإثنين، عَبَرت شاحنة حطب عملاقة، وكما لم ترَ عيني من قبل ذلك الحطب اليانع بمشهدٍ يثير شهوة النيران في أفران المطاعم والمخابز وتناوير القرويين التقليدية.
تلك الشاحنة- وإن بدت وحيدة في سرب المركبات- إلا أنها لم تكن سوى صورة مصغرة لمشهد تكيُّف الحضر والريف اليمنيين مع التبعات القاسية والجبرية لسنوات الحرب والحصار، واحتجاز سفن المشتقات النفطية والغاز المنزلي في عرض البحر لفترات طوال تجاوز الـ9 أشهر أحيانا.
الأهم في مشهد تلك الشاحنة، أنه تقاطع مع لحظات عودتي من المدرسة إلى المنزل لأخذ اسطواناتي الغازية إلى عاقل الحارة، لتعبئتها، وبصفة دورية تتكرر كل فترة زمنية أطولها شهر ونصف، وأقصرها أسبوعان، ما يعني أن ثمة استقراراً تموينياً في مادة الغاز المنزلي المخصص للطبخ في صنعاء ومناطق حكومتها، رغم الحرب والحصار واحتجاز سفن المشتقات، ومنها الغاز المنزلي.
السؤال الذي بات ملحاً في مفارقات تداعيات الحرب الاقتصادية ومضاعفاتها الكارثية التي لم تستثنِ أحداً من اليمنيين، هو: لماذا تعيش مناطق سيطرة حكومة هادي والتحالف، أزمة غاز منزلي خانقة، ولماذا عاد أغلب الناس فيها لزمن الاحتطاب، رغم كون منافذها البرية والجوية والبحرية مفتوحة على دول التحالف التي تدعي أن تلك المناطق محررة ؟!. لكن جنون الأسعار الخارجة عن قدرات المواطن الشرائية في تلك المناطق بسبب انهيار العملة، كفيلة بالرد على تلك الأسئلة.
فعلى سبيل المثال، في محافظة أرخبيل سقطرى التي تسيطر مؤسسة خليفة التابعة للإمارات على تجارة غاز الطهي في الجزيرة، يؤكد المواطنون أن السلطات الإماراتية ألزمتهم بشراء مادة الغاز المنزلي بالعملة الإماراتية، وبمبلغ 105 دراهم إماراتية ما يعادل 71 ألف ريال يمني.. مشيرين إلى أن راتب الموظف لا يصل إلى هذا المبلغ.. فصار الاحتطاب سياقاً جبرياً لا مفر منه، رغم تحذيرات مراقبي البيئة من تبعات الاحتطاب على تنوع الغطاء النباتي في الجزيرة.
وفي محافظة لحج، يؤكد مكتب الصناعة والتجارة أن المحافظة كانت تستقبل 21 مقطورة أسبوعياً، بواقع 84 مقطورة شهرياً، لكنها منذ أكتوبر 2020م لم تعد تستقبل سوى 28 مقطورة في الشهر، ولا تستطيع الأسر الفقيرة ومتوسطة الدخل شراءها، بعد أن وصل سعرها ما بين 9000-20000 ريال، وفي محافظة تعز وصل سعر الأسطوانة إلى 21 ألف ريال، وفي عدن تفاقمت أزمة الغاز، إلى درجة وصل معها سعر أسطوانة الغاز إلى 40 ألف ريال.
ذلك على سبيل الأمثلة لا حصر، وبصفة عامة يؤكد الواقع أن كل مناطق إنتاج النفط والغاز الواقعة تحت تصرف وسيطرة التحالف وحكومة هادي، تشهد أزمة خانقة، بل انعداماً لمادة الغاز المنزلي وارتفاع أسعاره في السوق السوداء إلى حدود خرجت عن قدرة المواطنين، ما دفع بأصحاب الريف والمديريات الطرفية في المدن الكبرى إلى الاحتطاب الذي تمارسه النساء يومياً كمهنة أصيلة ونشاط منزلي أسري ليس عن زمننا ببعيد، فيما دفعت تلك الأزمة بساكني المدن إلى شراء الحطب بأسعار باهظة، لكنها أقل بكثير من تكلفة الغاز.
تلك الشاحنة وبتلك الحمولة تفصح بلا شك عن ما خلف مشهدها الاختزالي من الآلاف من فرص العمل، ابتداء من مهنة الاحتطاب التي ينتشر حطابوها في مختلف شعاب وجبال وأودية اليمن، ومروراً بالتقطيع، ثم النقل من الغابات إلى الخطوط الرئيسة، ثم التعبئة والتحميل، ثم النقل، ثم البيع والتوزيع في أسواق الحطب الشعبية والرسمية، وغيرها من الأعمال الرديفة التي تستوعب الآلاف من الشباب العاطلين، وهو الحال نفسه في الأرياف حيث عادت النساء أفواجاً إلى الاحتطاب وتأمين ما كان يؤمِّنه الغاز من وقود الطهي.
ومع تلك الأهمية الاقتصادية لمهنة الاحتطاب، إلا أن خبراء البيئة حذروا مراراً من أن ترك الظاهرة بلا رقابة بيئية من قبل الجهات المحلية المعنية تمضي كما شاءت لها الحاجة الناتجة عن الأزمة، قد تعمق مشكلة التصحر من جديد، بعد أن كان الغاز المنزلي قد أسهم بإيجابية كبيرة في عودة الغطاء الأخضر للجبال والشعاب القاحلة في ربوع اليمن.