لم تؤخذ على محمل الجد، التحذيرات المبكرة من التبعات الخطيرة لانتهاج السياسات الاقتصادية لمؤسسات التمويل والدعم المالي الدولي في اليمن، وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد والمؤسسات التمويلية الشريكة.
ففي مطلع الألفية الجديدة، تجلت عواقب تلك السياسات، وبرزت عناوين هشاشة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد بصورة فاضحة، والتي سوف تشكل وقوداً للدفع بجموع اليمنيين لانتفاضة شعبية ضد النظام، وهو ما حدث في فبراير 2011.
وبرغم ذلك ظلت سياسات إغراق حاضر ومستقبل البلاد بالديون الخارجية قائمة، فقد وصلت 7.4 مليار دولار حتى نهاية يونيو2014، أي قبل أقل من عام على إعلان التحالف حربه في 26 مارس 2015، على أن هذه المديونية المستحقة على اليمن تتضمن الرصيد القائم ومتأخرات أقساط وفوائد مستحقة للجهات والمؤسسات الدولية المقرضة.
وتتمثل جهات الدين الخارجية لليمن بمؤسسات التمویل الدولية، مثل البنك الدولي والصندوق العربي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية وصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى بعض الدول كروسيا والسعودية والیابان، في حين تمثلت الديون الداخلية المتراكمة بإصدار أذون خزانة مملوكة لمستثمرین محلیین وبنوك تجارية محلية.
لا تزال مجموعة البنك الدولي، مثلاً، بمقابل الانهيار والتدهور الاقتصادي الذي فاقمت من أشكاله الحرب المستمرة في البلاد، تجتهد في رسم صورة مثالية إلى حد كبير لدورها في دعم وتمويل برامج الإصلاحات الاقتصادية ومشاريع التنمية، على مدى أربعة عقود، وتقول إنه بالرغم من دخول الحرب في البلاد عامها السابع، وما فرضته من ظروف معيقة لتدفق الدعم، إلا أنها مستمرة في تقديمه للخطط والبرامج الحكومية، في إطار مشاريع الاستجابة الإنسانية الدولية.
أشار البنك الدولي إلى أنه في ديسمبر 2015، تراجع عن قرار اتخذه في سبتمبر من العام نفسه، يتضمن إيقاف نشاطاته في اليمن، بما في ذلك عمليات الصرف للمشاريع التي تمولها المؤسسة الدولية للتنمية والصناديق الاستئمانية والتي يديرها البنك على أساس استثنائي.
ويقدم البنك الدولي، من خلال المؤسسة الدولية للتنمية منحاً طارئة كبيرة لليمن خلال سنوات الحرب. ومولت المؤسسة، من خلال شراكة مبتكرة مع الأمم المتحدة، إجراءات تدخلية طارئة بقيمة 1.7 مليار دولار، بغرض الاستثمار في البشر والمؤسسات التي يعتمدون عليها في توفير الخدمات الحيوية. ويقول البنك إن استراتيجيته في اليمن تهدف إلى تشجيع النمو الاقتصادي الفوري من خلال إيجاد فرص عمل مؤقتة ومساندة القطاع الخاص.
وبحلول مطلع العام 2020، قال البنك الدولي إن نسبة إجمالي الدين العام لليمن 94% من إجمالي الناتج المحلي، مضيفاً: وخلال الفترة نفسها بلغ الدين 4.74 تريليون ريال، بما يساوي نحو 9.5 مليار دولار بحساب “خمسمائة ریال تساوي دولاراً واحداً”.
لكن بيانات أوردها تقرير لحكومة هادي المدعومة من التحالف، كشفت عن ارتفاع الدين الخارجي من 6 مليارات و765 مليون دولار عام 2014، إلى 9 مليارات دولار نهاية 2019، بينما ارتفع صافي الدين الداخلي من 3 تريليونات إلى نحو 6 تريليونات ريال، بما يمثل 94% من الناتج المحلي الإجمالي.
ووفقاً للبيانات، فقد ارتفع صافي الدين العام المستحق (الداخلي والخارجي) على البلاد في النصف الثاني من 2019، بنسبة 41% إلى 10 تريليونات و401 مليار ريال، مقارنةً مع 6 تريليونات و563 مليار ريال في نهاية عام 2014.
وتسببت الحرب الدائرة في تراجع حاد للإيرادات المالية في البلاد، وإحجام الدول المانحة عن تقديم أي تمويلات للمشاريع التنموية، وتآكل احتياطي اليمن من النقد الأجنبي، كما لجأت الأطراف المتصارعة إلى تغطية عجز الموازنة من خلال السحب المباشر من البنك المركزي وخاصة في عدن، ما فاقم أزمة الديون.
وقاد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اليمن إلى وصفها بالدولة الفاشلة في سنوات ما قبل الحرب، ليصل الأمر إلى الانهيار المالي والاقتصادي مع ما أحدثته الحرب من تدمير للبنى المؤسسية الاقتصادية- حسبما يقول الخبراء.
وقد أدى عدم الاستقرار الأمني والسياسي واتباع مجموع من السياسات الاقتصادية الخاطئة التي توظف الموارد القليلة في مسارات محكومة بالتوجه السياسي للحكومات المتعاقبة، إلى الفشل الاقتصادي، حيث واصلت الحكومات الاعتماد على القروض لتغطية العجز في الموازنة، غير أنه في حقيقة الأمر، “لم یحدث في یوم من الأیام أن قامت الحكومات اليمنية بتطبيق سیاسة تقشفية في نفقات طواقمها الباذخة ومسؤولیها الذین لم یتوقفوا حتى عن ممارسة الفساد أو التخفيف على اقتصاد بلد هش أساساً”.
ويؤكد اقتصاديون أن السياسات الخاطئة نفسها التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة، إرضاء للبنك الدولي وأهدافه الخفية التدميرية، لا تزال قائمة حتى اللحظة في اليمن، فقد أصبح كل مواطن وكل مولود يولد مديناً للداخل والخارج بآلاف الدولارات، وهو الأمر الذي قد تتحمله وتدفع ثمنه الأجيال القادمة على حساب التنمية والنمو.
وفي هذا الصدد، يشير تقرير رسمي، إلى تزايد نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 44.5% عام 2014 إلى نحو 100.3% مطلع العام الماضي 2020، وبمتوسط سنوي بلغ 93.2% خلال السنوات الأخيرة.
وترتب على الحرب المتواصلة، ارتفاع الدين العام الحكومي من حوالي 1.1 تريليون ريال إلى 7 تريليونات ريال، إذ أصبح الدين الحكومي يتجاوز حجم الإنتاج المحلي الإجمالي.
وعلق مراقبون بالقول إن “ما تم هدره ونهبه من أموال القروض والمنح والمساعدات منذ بداية الحرب، يوازي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي وعشرة أضعاف المديونية الحكومية في اليمن”.
في عام 1944، وُلِدَت مجموعة البنك الدولي، لتعمل مع البلدان النامية على مزاعم «الحد من الفقر، وتعزيز الرخاء المشترك، وتشجيع التنمية المستدامة»، إلى جانب صندوق النقد الدولي المعني بـ«ضمان استقرار النظام النقدي الدولي، ورصد حركة العملات في العالم».
يقول البنك الدولي إنه يُقدِّم للبلدان النامية قروضاً بأسعار فائدة منخفضة، كما يقوم باستثمارات في مجالات واسعة منها: التعليم، الرعاية الصحية، الإدارة العامة، والبنية التحتية، وتنمية القطاع المالي والقطاع الخاص، والزراعة، وإدارة البيئة والموارد الطبيعية. كما يقدم المساندة من خلال برامج للمشورة بشأن السياسات، والبحوث والدراسات التحليلية، والمساعدة الفنية.
بالمقابل لا تزال “الشبكة الدولية من أجل إلغاء الديون غير الشرعية”، تكافح من أجل إيضاح مخاطر القروض التي قدمها البنك الدولي وصندوق النقد لأعداد كثيرة من الدول، لاسيما منها النامية والأقل نمواً. محذرة من أهدافهما في “التأثير المنهجيّ” على الدول المدينة، وكيف أن “المديونية الأجنبية كانت ولم تزل تستخدم كأداة لإخضاع المقترضين”.
واللافت، أنه بعد 77 عاماً على تأسيس مجموعة البنك وصندوق النقد الدوليين، لم تندحر وجهات النظر التي تعتبرهما “خاضعين لهيمنة أميركا وعدد من القوى الكبرى المتحالفة التي تعمل على تعميم سياسات تتعارض مع مصالح سكان العالم”.
كما أن كتاب “البنك الدولي: انقلاب لا ينتهي” الصادر في 2007، قد استغرق في فضح انتهاكات البنك الدولي وصندوق النقد، منذ إنشائهما، للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وكيف أن هاتين المؤسستين، “لا تتورعان عن دعم الديكتاتوريات”. أما مشاريعهما فلها غرض سياسي أساسي هو: “كبح جماح أي حركات شعبية تتحدى سيطرة القوى الرأسمالية الكبرى”.
ووجه (مشروع بريتون وودز)، في بريطانيا، قبل سنوات، انتقادات لاذعة لسياسات البنك الدولي وصندوق النقد، التي “تضع شروطاً للقروض أو المشاريع أو المساعدات الفنية (إجراءات مسبقة ولاحقة) تقوض سيادة الدول المقترضة”.
وقال (بريتون وودز)، إن محتوى سياسات وبرامج ومشاريع هاتين المؤسستين، “يقوض مجموعة واسعة من حقوق الإنسان الاقتصادية، مثل: تخفيض الأجور، وفرض الضرائب، ورفع الدعم، والاستثمار في شركات تتهرب من دفع مستحقاتها الضريبية، وفي مشاريع تخلق بيئة تعزز العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي”.