تقرير خاص-يمن ايكو
ظلت الأوضاع الاقتصادية عاملاً مهماً في المشاكل التي يعاني منها اليمن، ومبعثاً للعديد من الحراكات المجتمعية التي رفعت مطلب التوزيع العادل للثروة، بين جميع المحافظات اليمنية، غير أن هذا المطلب ظل في هامش اهتمامات النظام السابق، إن لم يكن ضمن ثقافة المسكوت عنه الجبرية، ليبقى سؤال الاقتصاد قائماً حول تعامل نظام ما بعد الوحدة مع موارد البلاد وثرواتها السيادية المفتوحة على التنوع براً وبحراً، إذ يرى خبراء الاقتصاد أن تغييب ملف الاقتصاد والثروات وتقاسم المصالح الخادمة لكل شرائح المجتمع، في الترجمة الإجرائية لاتفاقيات إعادة تحقيق الوحدة اليمنية المباركة مثَّل خطأً فادحاً، أفضى إلى كمٍّ كبيرٍ من المشكلات الاقتصادية التي أساءت للوحدة اليمنية كمكسب تاريخي واستحقاق وطني عظيم، مؤكدين أن النظام السياسي لدولة الوحدة همش مقدرات البلد الإنتاجية في الشمال والجنوب، واتكأ على الثروات النفطية كأساس لدولته ونفقاته الكبيرة، موجهاً الكتل المالية الناتجة عن النفط، لصالح حفنة من قوى النفوذ الحامية لأركان دولته، ولشراء الولاءات السياسية داخلياً وخارجياً.
ومن يرجع إلى أدبيات المفاوضات بين الشطرين سيجد أن المسار الاقتصادي في تفاصيل الاتفاقيات التي تمت عقب جولات الحروب بينهما، والتي كانت نتاج عمل لجان الوحدة المشتركة، لا غبار عليها، وهي جهد جيد وصادرة عن قامات وطنية مخلصة، رأت إلى الوحدة من منظور اقتصادي معيشي ينعم الجميع في ظله بالمساواة في الحكم والثروة والفرص، لكن تلك البنود لم تطبق على الأرض، واكتفى النظامان بوحدة اندماجية قيادية فقط، وأجّلا توحيد العملة والبنك المركزي والجيش والأمن ودمج المؤسسات الإنتاجية والاقتصادية.. إلخ- وما يتصل من ضرورات حلحلة مشاكل المستفيدين منها شمالاً وجنوباً- إلى ما بعد الوحدة، لتكون سبباً رئيساً في بروز الخلافات المريرة بين الطرفين، واندلاع حرب صيف ١٩٩٤م التي خلفت كارثة اقتصادية كبرى، بما أفرزته من مئات الآلاف من المسرّحين من وظائفهم والمنقطعة معاشاتهم على المستويات العسكرية والأمنية والمدنية.
ومن المؤكد أن تنامي الشعور بالغبن في الشارع اليمني عامة والجنوبي خاصة بعد حرب صيف 94 قوبل بلا مبالاة ولا اكتراث، بل بالقمع والإقصاء، استناداً إلى مصدر قوة النظام، أو ما عرف بالسلطة رباعية الأجنحة: السياسي، العسكري، الديني، والقبلي، وهي القوى التي تحكمت بالثروات والموارد وحركة التجارة ومداخيل النفط والمناصب والحقائب الوزارية، على حساب مصالح ومعايش الغالبية العظمى من الشعب اليمني، مجيّرة تحقيق الوحدة اليمنية لصالح النظام، ومعتبرة إياها أحد أهم مكتسباته التاريخية، في كذبة لم يصدقها سوى النظام نفسه بتعاميه وتصاميه عن كل الدعوات المطلبية والمعيشية في الشارع اليمني، وعن كل الكوارث التي خلفتها قوى النفوذ من سيطرتها على المقدرات، بما في ذلك تغاضي النظام عن نتائج تقرير أراضي الجنوب الصادر عن لجنة الراحلين: عبدالقادر هلال والدكتور صالح علي باصرة- رحمهما الله- الذي تضمن جرائم فساد قوى النفوذ التابعة للنظام في المحافظات الجنوبية من احتلال البيوت ومصادرة الحقوق العامة والخاصة والسيطرة الجبرية على أراضي الدولة وأراضي المواطنين.
وليس غريباً كارثية المآلات التي شهدها الواقع اليمني الجديد المشغول بالتغني بإعادة تحقيق الوحدة المباركة، كنهاية لمعاناة أبنائه في الحركة والتنقل والتواصل، وفرص العمل بين الشطرين، فرأس النظام الذي نظر للوحدة كمكسب خاص، اعتمد اعتماداً كبيراً بعد ما اعتبره انتصار 7 يوليو 1994م على القطاع النفطي من منظور اقتصادي، وأغفل القطاعات غير النفطية كدوائر الإنتاج الزراعي والغذائي والصناعي، عبر تغييب مخصصاته المتعارف عليها، بما في ذلك مصانع الغزل والنسيج في البلاد شمالاً وجنوباً، إلى جانب الحركة الزراعية والعمالية الهائلة، وغيرها من الممارسات الاقتصادية الخاطئة، التي اعتبرها مراقبون أهم الأخطاء الاستراتيجية التي ضربت اقتصاد الوحدة اليمنية، بتركيز مواردها المجتمعة في أيدي قوى النفوذ المذكورة، حيث ولد ذلك غبناً اجتماعياً كبيراً بعد أن وجد عشرات الآلاف من الأيادي العاملة على أرصفة البطالة باحثين عن قوت أسرهم.
وفي وقت مثّلت وحدة الموارد اليمنية عبر السواحل والمدن التجارية الكبرى، والمطارات والموانئ والمنافذ البرية، والقيعان الزراعية المفتوحة، فرصةً تاريخيةً لاجتماع عوامل تعزيز قدرات البلاد الإنتاجية على مختلف السلع الأساسية والكمالية وصولاً إلى الاكتفاء، عمد إلى جعل الدولة معتمدة على الدعم الخارجي، مفرغاً المجال لحكوماته المتعاقبة، إلى صندوق النقد الدولي للقيام ببرنامج دمج هيكلي وتمويل مشاريع إنمائية لمواكبة السياسات النيوليبرالية وفق التعليمات الدولية، التي تكشفت فيما بعد عن أن أكثر من 50% من كتل المنح المالية الخارجية والقروض وجهت خارج مسار التنمية، بل تحولت إلى أعباء وقروض تتحمل تبعاتها الأجيال القادمة.
النظام السابق- الذي فرض نفسه شريكاً استثمارياً في كل المشاريع محولاً بيئة البلد الاستثمارية إلى طاردة للرساميل المحلية والأجنبية- لم يكتفِ بتلك الممارسات بل أوغل في انتهاج سياسات اقتصادية قاتلة، تمثلت في المصادقة والتوقيع على اتفاقيات دولية تحظر على الدولة التوجه نحو زراعة القمح وغيره من المحاصيل ذات الضرورة الحياتية، ليظل اعتماد الدولة إجبارياً على الواردات وتوجيه مليارات الدولارات لهذا الغرض، معتبرين ذلك خطأً استراتيجياً قصم ظهر الوحدة، وأفرز الفقر بشكل كارثي في كل المحافظات، وقتل في المجتمع همة العمل والزراعة والإنتاج، مفوتاً على اليمن فرصة بناء الشخصية الاعتبارية لدولة الوحدة اليمنية المستقلة سياسياً وسيادياً واقتصادياً.
ويرى خبراء اقتصاد أن تلك العوامل والممارسات السياسية والاقتصادية هي ما أفضى باليمن إلى الضعف والفقر والتبعية لقوى الاقتصاد العالمية وأدواتها في المنطقة، وأسال لعاب الأطماع الخارجية في الثروات الكامنة في جغرافيا البلاد طولاً وعرضاً، وقاد إلى النتائج الكارثية لمآلات التدخل العسكري في الشأن اليمني، عبر حرب مفتوحة دخلت عامها السابع في مارس الماضي، مشيرين إلى أن الأوضاع التي تمر بها اليمن حالياً، في حال توقفت الحرب، يمكن أن تمثِّل فرصة تاريخية في الخلاص من التبعية الاقتصادية والخروج من مربع كينونتها كسوق استهلاكية لدول الجوار وأنظمتها القائمة على نزعة التوسع والإلغاء لهويات ودول كانت قائمة في الخليج، إلى مجتمع إنتاجي يستعيد دولته وموقعه الحضاري بين دول المنطقة زراعياً وتجارياً وثقافياً.