يمن ايكو
أخبارتقارير

اللغز والشفرة في الصراع العالمي على مضيق باب المندب والحرب الكبرى

يمن إيكو| تقارير:

ترتفع وتيرة التنافس الدولي والإقليمي للسيطرة على مضيق باب المندب الذي يقع في المياه الإقليمية اليمنية، بين منطقة القرن الإفريقي وشبه الجزيرة العربية، وأوجدت القوى العالمية المؤثرة والفاعلة مبررات وحُججاً لتكثيف حضورها عسكرياً من أجل السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية التي تعبر من خلالها 10% من التجارة الدولية، ومن هذه المبررات ضمان حرية وتأمين الملاحة الدولية ومرور التجارة الدولية والتصدي للتهديدات الأمنية وعمليات القرصنة عند مضيق باب المندب وخليج عدن.

المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب، أصدر تقريراً تطرق فيه إلى أهمية مضيق باب المندب، وكيف أصبح محط اهتمام دولي وإقليمي متزايد، وهو الاهتمام الذي أسس لصراعات ونزاعات دولية وإقليمية بلغت ذروتها خلال السنوات الأخيرة، ولا تزال تتزايد بشكل تفسره عسكرة المنطقة واستمرار توافد القوات متعددة الجنسيات للسيطرة وتوسيع النفوذ تبعاً لمصالح الدول والقوى العالمية الفاعلة.

وذكر تقرير المركز الأوروبي أن مضيق باب المندب- الممر المائي الذي يصل خليج عدن وبحر العرب بالبحر الأحمر، ومنه عبر قناة السويس إلى البحر الأبيض المتوسط- يقع بين اليمن في آسيا وكل من جيبوتي وإريتريا في إفريقيا، ويتوسط القارات الخمس، مشيراً إلى أن ما يميز باب المندب هو أنه يصل البحرَ الأحمر بخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي من جهة، والبحر الأبيض المتوسط من جهة ثانية، كما أن اليمن يقع في قلب مشروع “الحزام والطريق” أَو ما يعرف بـ “طريق الحرير”، نظراً لأهميّة موقعه، وامتلاكه عدداً من الموانئ، والجزر المتناثرة وعددها (130) على هذا الطريق، مثل ميناءَي عدن والمخا اللذين يتوسطهما مضيق باب المندب، وجزيرة بريم التي تتوسط المضيق.

التقرير أوضح أن مضيق باب المندب، تحوَّل إلى واحد من أهم ممرات النقل والمعابر البحرية بين أوروبا وحوض البحر المتوسط، والمحيط الهندي وشرق إفريقيا، منذ افتتاح قناة السويس عام 1869م، وربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، وأكثر ما أكسب مضيق باب المندب أهميةً واهتماماً دولياً وإقليمياً هو أن عرض قناة عبور السفن بين جزيرة بريم والبر الإفريقي، يصل إلى (16) كيلو متراً وعمقها (100-200) متر، وهو ما يسمح للسفن وناقلات النفط بعبور الممر بسهولة في الاتجاهين، كم أن المسافة بين ضفتي المضيق تبلغ (30) كيلو متراً من رأس منهالي في الجانب الآسيوي إلى رأس سيان في الجانب الإفريقي.

يحتل مضيق باب المندب المرتبة الثالثة عالمياً بعد مضيقي ملقا وهرمز، حيث يمر عبره يومياً (3.3) مليون برميل نفط، وتمثل (4%) من الطلب العالمي على النفط، وتمر عبره (21) ألف سفينة سنوياً، أي ما يعادل (10%) من الشحنات والبضائع البحرية العالمية، بما فيها غالبية أنشطة التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، وهو ما جعل استقرار مضيق باب المندب والبحر الأحمر أمراً مرتبطاً بحركة التجارة العالمية، وبشكل قوي.

وتقدر قيمة الشحنات التي تعبر مضيق باب المندب بنحو (700) مليار دولار أمريكي سنوياً، في طريقها إلى قناة السويس ومن ثم إلى البحر الأبيض المتوسط. كما يمر (1.5) مليون برميل من النفط الخام يومياً عبر الممرات المائية الاستراتيجية، حيث يتم تصدير ما يقرب من (10%) من إجمالي النفط الخام السعودي إلى أوروبا عبر هذا المضيق. فضلاً عن أن الكمية الأكبر من الخام الأوروبي الوارد من أنحاء منطقة الشرق الأوسط الكبير يمر عبر منطقة البحر الأحمر.

كل ما سبق من أهمية واستراتيجية مضيق باب المندب، جعله هدفاً لسيطرة قوى النفوذ العالمية والإقليمية، ومن أكثر العوامل التي جعلته نقطة للصراع والتنافس المحموم أنه يُعدُّ منطقة اتصال مع شبه الجزيرة العربية الغنية بالنفط، فالموانئ وحاملات النفط والغاز والاتجار بالبضائع والأسلحة وعبور الأشخاص جعلته أكثر جذباً وتركيزاً واهتماماً لأطراف دولية وإقليمية تتصارع للحصول على موقع استراتيجي فيه، وتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية وعسكرية.

وأكد التقرير أن هذا التنافس والصراع للحصول على موطئ قدم في مضيق باب المندب، أدى إلى تحشيد قواعد عسكرية في منطقة القرن الإفريقي القريبة من المضيق والتي تشكل في حد ذاتها نقاطاً استراتيجية مهمة، ففي جيبوتي وحدها تسعُ قواعد عسكرية لست دول مختلفة، وفي الصومال خمس قواعد، اثنتان منها للإمارات وواحدة لتركيا، وفي إريتريا قاعدتان، واحدة إسرائيلية وأخرى إماراتية، أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد أنشأت القاعدة العسكرية “ليمونير” في جيبوتي، عام 2007، وهي مسؤولة عن العمليات والعلاقات العسكرية مع الدول الإفريقية، وبلغ تعداد قواتها ما يقارب (4000) جندي، وأصبحت مقراً لقواتِ “أفريكوم” في المنطقة، ومهمتها مراقبة المجال الجوي والبحري والبري للسودان وإريتريا والصومال وجيبوتي وكينيا واليمن.

وأشار التقرير إلى أنه وتحسباً لإغلاق مضيق باب المندب رداً على حرب غزة، أعلن الأسطول الخامس التابع للبحرية الأمريكية، في 19 أكتوبر 2023 وصول أكثر من ثلاثة آلاف بحار وجندي أمريكي إلى الشرق الأوسط، ودخول السفينة الهجومية البرمائية “يو إس إس باتان” وسفينة الإنزال “يو إس إس كارتر هول”، إلى البحر الأحمر عبر قناة السويس، ولفت البيان الذي أصدره الأسطول الخامس وقتها إلى أن منطقة عملياته تشمل الخليج العربي وخليج عُمان والبحر الأحمر، وأجزاء من المحيط الهندي و3 نقاط حرجة في مضيق هرمز وقناة السويس ومضيق باب المندب.

وتحتفظ فرنسا بأكبر قاعدة عسكرية أجنبية لها خارج حدودها في جيبوتي. وينتشر نحو (1500) جندي في القاعدة، ومبرر وجودها أيضاً هو مكافحة الإرهاب وحراسة الممرات البحرية القريبة، كما توجد قاعدة بريطانية في منطقة بيدوا يتمّ فيها تدريب القوات الصومالية، حيث تسعى بريطانيا إلى إقامة قاعدة في أرض الصومال- المنطقة التي أعلنت انفصالها بدون أي اعتراف دولي.

وعبر البوابة الإريترية تسعى روسيا للعودة إلى القرن الإفريقي، حيث وقّعت إريتريا، في 10 يناير 2023، مذكرة تفاهم مع روسيا تنص على ربط مدينة مصوع الإريترية الساحلية مع قاعدة البحر الأسود البحرية سيفاستوبول، ويتيح هذا الاتفاق لموسكو استغلال ميناء مصوع الإريتري تمهيداً لإنشاء قاعدة عسكرية روسية جديدة في البحر الأحمر بالقرب من مضيق باب المندب.

إسرائيل أيضاً وجدت مجالاً حيوياً في تلك المنطقة الاستراتيجية، فأسست وجوداً عسكرياً وأمنياً وطورت علاقاتها السياسية مع بعض الأنظمة، خصوصاً النظامين الإريتري والأوغندي، كي ترصد أي نشاط عسكري عربي ضدها، وكسر أي حصار عربي مستقبلاً ضدها وضد سفنها في البحر الأحمر ومدخله الجنوبي، وبالتالي ضمان الاتصال والأمن للخطوط البحرية العسكرية والتجارية من المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط، والحيلولة دون أن يكون البحر الأحمر بحراً عربياً خالصاً، حسب تقرير المركز الأوروبي.

وأكد التقرير أن إسرائيل أنشأت، منذ عام 2016، وبشكل سري قاعدة استخبارات إلكترونية متقدمة في إريتريا لمراقبة مضيق باب المندب الاستراتيجي، الذي تنتقل عبره غالبية شحنات النفط الخليجية في طريقها إلى العملاء بجميع أنحاء العالم، حَيثُ تقع القاعدة على أعلى جبل في البلاد، إمبا سويرا، خارج العاصمة أسمرة، وهي تراقب أنشطة “أنصار الله” في اليمن.

وبعد اندلاع حرب التحالف، الذي تقوده السعودية، في اليمن، تعاظمت الأهمية الاستراتيجية للقرن الإفريقي للتصدي لما أسمته القوى العالمية والإقليمية المتنافسة “توسع النفوذ الإيراني”، وتقاطع ذلك مع مصالح مجموعة من الدول (الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وبعض دول الخليج).

الصين لم تكن بمنأى عما يجري في القرن الإفريقي وباب المندب، وكقوة عظمى بنت قاعدة بحرية في جيبوتي، وبالمبررات نفسها “مكافحة القرصنة وضمان أمن باب المندب”. وهي القاعدة الوحيدة خارج الأراضي الصينية، ويعود تاريخ إنشائها إلى عام 2017، أي بعد أربع سنوات من إعلان الرئيس الصيني عن مبادرة “حزام واحد طريق واحد”، التي باتت تعرف بطريق الحرير الجديد.

وتهدف المبادرة إلى الربط بين الصين وأوروبا ووسط آسيا والشرق الأوسط عبر أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، يشمل بناء طرقات وسكك حديدية ومناطق صناعية. على الرغم من أن المبادرة تبدو تنموية واقتصادية في المقام الأول، إلا أن الدراسات تتفق على أن الهدف الرئيسي منها هو زيادة نفوذ الصين الجيوسياسي، على مستوى الجغرافيا وعلى مستوى توزيع القوة والثروة أيضاً. بالطبع يمر طريق الحرير الجديد بباب المندب، وبهذا الشأن قال المركز الأوروبي في تقريره إن الصين وقعت مع الحوثيين اتفاقية عام 2019.

إقليمياً، سعت تركيا لتعزيز وجودها عبر البوابة الصومالية، وافتتحت في عام 2017 قاعدة عسكرية تعد الأكبر والأهم في الصومال، ومثل بقية القوى أعلنت تركيا أن الهدفَ من إنشاء القاعدة هو تدريبُ الصوماليين، لكن الهدف الرئيس هو السيطرةُ على مضيق باب المندب كونه المعبَرَ البحريَّ الرئيسَ لتجارة النفط العالمية.

ويرى فريق التحليل الاقتصادي التابع لموقع “يمن إيكو”، أن النزاعات القائمة في بعض دول القرن الإفريقي وضعف أنظمة وحكومات البعض الآخر منها، وحرب التحالف الدائرة في اليمن منذ عام 2015م، وما نتج عنها من صراعات داخلية، قد تكون صناعة متعمدة من القوى العالمية والإقليمية المتنافسة للسيطرة والاستحواذ على مضيق باب المندب والقرن الإفريقي، وخصوصاً في اليمن التي لا تريد تلك القوى أن تتوقف الحرب فيها حتى لا تكون هناك حكومة مركزية تحكم قبضتها على باب المندب والمياه الإقليمية في البحر الأحمر، كون ذلك سيعطل مصالحها وسيضع حداً للسباق والصراع القائم بينها، والذي يهدف بالأساس إلى التحكم في مرور التجارة العالمية والملاحة البحرية.

ونظراً للمتغيرات العالمية المتسارعة، وخصوصاً الحرب الإسرائيلية على غزة، ترى دول النفوذ العالمي أن الوقت أصبح أكثر إلحاحاً على بقاء مضيق باب المندب تحت إشرافها وسيطرة قواعدها وبوارجها الحربية، وأكثر من أي وقت مضى تعمل تلك القوى على عرقلة أي حل للأزمة في اليمن ووقف حرب التحالف، حتى لا يفضي ذلك إلى تشكل حكومة مركزية قوية، وهو الأمر الذي يفسر تصريحات البنتاغون في 19 أكتوبر 2023، بإطلاق سلسلة من الطائرات بدون طيار الهجومية وصواريخ كروز بعيدة المدى من اليمن، والتي يقول مسؤولو الدفاع الأمريكيون إنها كانت متجهة إلى إسرائيل ولكن اعترضتها مدمرة الصواريخ الأمريكية “يو إس إس كارني” فوق البحر الأحمر.

وحسب فريق التحليل لموقع “يمن إيكو”، فإن حرص القوى العالمية بقاء مضيق باب المندب تحت بصرها وسمعها، كان قد ظهر في شهر إبريل من عام 2022، بشكل أوضح من ذي قبل، حيث شكلت الولايات المتحدة الأمريكية فريقاً أمنياً مع عدد من حلفائها، لما أسمته مراقبة البحر الأحمر وتثبيت استقرار الملاحة وتأمين خط التجارة الدولي المهم عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر وخليج عدن، وفي مايو من العام نفسه دعا عدد من الدول الأوروبية، على رأسها فرنسا، إلى تمديد صلاحيات بعثة الرقابة الأوروبية على مضيق هرمز، لتشمل البحر الأحمر نزولاً إلى المحيط الهندي عبر مضيق باب المندب.

باب المندب ومؤشرات الحرب الكبرى

شهدت الأيام الماضية التي تزامنت مع الحرب الإسرائيلية على غزة هجمات متعددة من قبل الدول التي تعرف باسم “محور المقاومة” على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق وإعلان البنتاغون والجيش الإسرائيلي اعتراض هجمات بعشرات الصواريخ والطائرات المسيرة كانت تستهدف إسرائيل، فيما أعلن البنتاغون حصيلة لتلك الهجمات تمثلّت بإصابة 24 جندياً أمريكياً في العراق وسوريا.
ورغم أن دول محور المقاومة المتمثلة في إيران حكومة صنعاء وحزب الله في لبنان والفصائل المسلحة في سوريا والعراق (تتضمن المقاومة الفلسطينية) لم تعلن رسمياً تبنيها لتلك العمليات، إلا أن هذا المحور هدد بالتدخل في حال حدث اجتياح لقطاع غزة بمشاركة أمريكية رسمية، في إطار ما يسميه المحور بـ”الحرب الكبرى”.
وفق تلك المعطيات يصبح باب المندب بما يمثله من أهمية للتجارة الغربية والإسرائيلية خياراً متاحاً لاستخدامه من قبل المحور كورقة لمنع استمرار الحرب الإسرائيلية خصوصاً أن حكومة صنعاء تعتبر نفسها الحكومة الشرعية لليمن وبالتالي تضع باب المندب ضمن سيادتها كممثل لسيادة اليمن رغم وقوعه تحت سيطرة قوات موالية للتحالف بقيادة السعودية لكنها تمتلك القدرة النارية على التحكم بحركة الملاحة فيه.
وفي مؤشر على أن محور المقاومة يضع باب المندب ضمن أوراقه للضغط على الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كشفت تقارير إعلامية عن هجوم يمني استهدف قبل أيام قاعدة عسكرية إسرائيلية في جزيرة دهلك الإريترية جنوب البحر الأحمر والتي تستخدمها إسرائيل في تتبّع حركة الملاحة البحرية من جزيرة دهلك وحتى مضيق باب المندب ، حيث أشارت تلك التقارير إلى أن العملية أدت لمقتل ضابط إسرائيلي وجنود آخرين وسط تكتم إسرائيلي.

مواضيع ذات صلة

أترك تعليقاً