تقرير خاص – يمن إيكو
وسط فوضى السوق والتعاملات التجارية والغياب الرقابي المزمن للدولة، يدور الجدل السطحي حول كارثة الصعود الصاروخي لأسعار المواد الغذائية في مناطق سيطرة التحالف، خارج حدود سعر صرف الدولار، وبدون أن يتطرق الناشطون أو المواطنون لحقائق حجم الأرباح الخيالية التي تترتب على ثلاثة مسارات لبيع الدولار: جمركياً، وسوقياً (رسمية وسوداء)، وتجارياً، وسط تهاتف الشركات المستوردة وسباقها المحموم للحصول على اعتمادات أكثر من مخصصات استيراد الغذاء في البنك المركزي عدن.
جمركياً، يباع الدولار للتاجر بسعر 500 ريال بحُجة شراء الغذاء (القمح)، منذ صدر قرار حكومة هادي في يوليو 2021م، بعد أن كان (250) ريالاً للدولار الواحد طوال السنوات السبع الماضية، وهو ما اعتبره مراقبون جريمة تدفع بالتجار لاستغلال المستهلك، إذ لا مفر لهم من تعويض الفارق، حسب بيانات الغرف التجارية في عموم محافظات الجمهورية.
في السوق السوداء أو الرسمية -خصوصاً بعد ما دخل بنك مركزي عدن سوق المضاربة بالدولار تحت اسم المزادات- يباع الدولار ما بين 1000-1750 ريالاً، حسب مؤشرات السوق خلال الفترة (من نوفمبر الماضي إلى مايو الجاري)، ويكون هامش الربح هنا متوقفاً على قدرة الصيارفة والتجار في التلاعب والاحتكار والإخفاء والمضاربة، فضلاً عن تسرب كتل نقدية من الدولار المشترى بالسعر الجمركي إلى السوق بهدف مضاعفة الأرباح.
أما بيع الدولار تجارياً، فمعناه أن يُباع في السلع الغذائية، وهنا يكون الفساد المفارق لقيم التعامل الإنساني والتجاري، ويكون ضرباً من الابتزاز والاستلاب المتعمد، بدون أي اعتبار لملايين الجوعى، وتتمثل الجريمة في أن التاجر يدفع الجمارك على أساس سعر الصرف للدولار 500 ريال، فيما المعتمد في الدولار الجمركي هو 250 ريالاً للدولار، وهذه جريمة ارتكبتها الحكومة المدعومة من التحالف، قادت إلى مضاعفة أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، إذ ليس أمام التاجر لتعويض الفارق في سعر الدولار الجمركي، إلا من خلال رفع أسعار المواد الاستهلاكية.
الأهم من ذلك، أن المواطن وبدون أن يدرك، أن التاجر يحصل على الدولار من خلال الاعتمادات المستندية بسعر صرف 500 ريال للدولار لاستيراد السلع، ووفق صورة ذهنية بسيطة، تعكس حسابات المواطن من منطلق قدرته الشرائية المنهكة، ينظر إلى سعر كيس القمح 50 كيلو غراماً، ويقارنه مع سعر صرف الدولار في السوق (الرسمية أو السوداء) الذي تحسن من 1750 ريالاً إلى 1000 ريال، بفعل آلة إعلامية ضخمة تحتفل بهذا التحسن السطحي، الذي لم ينعكس في المواد الغذائية، وعلى هذا الأساس وتنديداً به تخرج التظاهرات والاحتجاجات يومياً.
الناشط السياسي مدين ياسين، وفي توصيف دقيق لصعود أسعار السلع على أسعار الدولار وفوضى الأرباح التي يحققها التجار، أكد أن أحد العوامل التي تسببت في ذلك، هو “غياب الدولة رقابياً، مما خلق هذه المظاهر من الفساد المتمركز في أسعار السلع الغذائية وبالأخص القمح” (الزهيد خارجياً، الباهظ الثمن محلياً)، حيث يحصل التاجر على الدولار من خلال الاعتمادات المستندية أو السعر المخصص للاستيراد بـسعر صرف 500 ريال للدولار، ويبيعه على سلعة القمح (كيس القمح 50 كيلو غراماً)، بما فوق الـ1000 ريال، ليحقق التاجر أرباحاً مضاعفة فوق مستوى أسعار الدولار، وخارج القدرة الشرائية للمواطن.
وطالب ياسين الجهات المعنية في الحكومة الموالية للتحالف، بأن تعيد النظر في الدولار الجمركي، وأن توقف فساد التجار ومتاجرتهم بغذاء المواطن، مؤكداً أن المواطن أحق بأن تذهب مخصصات القمح من الوديعة، وعبر شركة حكومية كـ(شركة التجارة الخارجية) تستورد الغذاء بأسعار لا تخرج عن سعر الدولار في الاعتمادات المستندية المحدد بـ500 ريال للدولار، وتبيع بهامش ربح لا يتجاوز 50 ريالاً على الدولار فقط، بدلاً من أن تذهب 30-40% من الوديعة إلى أرصدة التجار في الخارج ليشتري القمح، ويضاعف أرباحه، عبر بيع الدولار في المواد الغذائية بسعر 1000 ريال.
الأخطر ليس فيما أشار له ياسين من شراء التجار للدولار بسعر صرف 500 ريال وبيعه على السلع الغذائية بسعر 1000 ريال، بل يتمثل في أن أسعار المواد الغذائية لم تتراجع بقدر تراجع الدولار من 1750 ريالاً إلى 1000 ريال، ما يعني أن السعر الحقيقي للدولار في السلع الغذائية يقترب من 2000 ريال، بحكم الارتفاعات السعرية المستمرة للغذاء، وأن التجار باستحواذهم على الودائع والمساعدات وبسعر الدولار المعتمد في الاعتمادات المستندية أو المخصص للاستيراد، لا يبيعون الدولار مجرداً بل يتاجرون به في أسعار الغذاء، في فسحة من ضوابط الضمير الأخلاقية، وقوانين ولوائح الدولة الرقابية.
الثغرات التي أدت إلى تعاظم ظاهرة التلاعب بأسعار المواد الاستهلاكية خارج سعر صرف الدولار- وفق مراقبين- تتمثل في غياب نظام تحديد أسعار بلد المنشأ، وهو نظام عالمي موحد يعتمد على الكود السلعي، والذي يحدد نوعية السلعة ومواصفاتها والحجم وسعر بلد المنشأ، وبناء على قراءة النظام لذلك الكود تحدد القيمة الجمركية الحقيقية على حجم ووزن الكتل السلعية الواصلة للمنافذ الجمركية.
ويضيف المراقبون، أن هذه الظروف فتحت السقف للتجار في التفاوض مع الجهات المعنية الرسمية، وتخفيض نسب الجمارك بدون عكس نسب التخفيض على أسعار المواد الاستهلاكية، فرغم ما يحصل عليه التاجر من نسب تخفيض في الجمارك والضرائب، يظل يحتج بأن الزيادة في الجمارك والضرائب هي أحد أسباب ارتفاع الأسعار.. مشددين على ضرورة إغلاق هذا الباب واتباع نظام تحديد أسعار بلد المنشأ، واعتماد التعرفة الإجمالية.
خلاصة القول: إن مناطق سيطرة التحالف، وتبعاً لتلك الفوضى، تشهد أسوأ الأزمات المعيشية، رغم كونها لا تخضع لأي حصار بقدر ما تحظى به من وصف كاذبِ لا يمت للواقع بصلة، حيث يطلق عليها (المحررة)، وليست محررة في نظر المراقبين إلاَّ من أي نظام رقابي لمؤسسات الدولة، ومن أي نظام قيمي أو قوانين واضحة تحمي المستهلك من جشع التاجر، فتمضي الحياة اليومية بصورة تشي بديماغوجية اقتصاد الرأسمالية المجردة من الإنسانية (الغني يزداد غنىً، والفقير يزداد فقراً)، حيث الربحية تحكم السباق بين الرساميل المتهورة.