يمن إيكو| تقرير:
قبل شهر كامل من اليوم أطلقت المقاومة الفلسطينية عملية “طوفان الأقصى” التي حققت خلال ساعات فقط من إعلانها أكبر اختراق أمني واستخباراتي وعسكري لإسرائيل منذ قيامها وكبدتها خسائر غير مسبوقة، لترد الأخيرة بأعنف حملة قصف على قطاع غزة وإطلاق عملية برية بهدفين رئيسيين هما إعادة الأسرى والقضاء على “حماس”، وفيما يواصل الجيش الإسرائيلي مساعيه للاقتراب ولو قليلاً من هذين الهدفين، بدون جدوى، يمتد الصراع خارج حدود فلسطين كاسراً حواجز عديدة أمام أطراف محور المقاومة، في مشهد ينذر بحرب إقليمية يبقى احتمال اندلاعها قائماً طالما استمر القتال في فلسطين.
السابع من أكتوبر
عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية فجر السابع من أكتوبر الماضي، تمثلت بهجوم جوي واسع بالطائرات الشراعية والمسيرة، وبري عبر الأنفاق وخلال السياج الحدودي بين غزة ومستوطنات “الغلاف”، وبحري بقوات كوماندوز تسللت إلى قواعد إسرائيلية، وكل ذلك تحت غطاء آلاف الصواريخ التي تم إطلاقها على معظم المناطق الإسرائيلية، ولم تمض ساعات حتى كان مقاتلو المقاومة قد توغلوا إلى قلب المستوطنات الإسرائيلية وأوقعوا خسائر غير مسبوقة بالنسبة لعملية فلسطينية في صفوف الإسرائيليين.
قال الجيش الإسرائيلي في آخر إحصائية رصدها موقع “يمن إيكو” إن عدد جنوده وضباطه القتلى منذ فجر ذلك اليوم قد وصل إلى 347 قتيلاً معظمهم سقطوا خلال الأيام الأولى، فيما توقف عداد أسراه حتى الآن عند 242، فيما كانت وسائل إعلامية اسرائيلية قد تحدثت في الأسابيع الأولى عن آلاف القتلى والجرحى من المستوطنين.
لكن الأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله، اتهم الجيش الإسرائيلي مؤخراً بأنه قتل أعداداً كبيرة من المستوطنين خلال الأيام الأولى للحرب وذلك عندما كان الجيش يحاول طرد المقاومين من مستوطنات غلاف غزة.
وقد بدا بوضوح أن المقاومة الفلسطينية أعدت لهذه العملية منذ فترة طويلة ورسمت مساراتها بدقة، واختارت توقيتها بعناية، لأن العملية كانت خاطفة وحققت نتائج سريعة بشكل لا يصدق، إلى درجة أن كافة خيارات الجيش الإسرائيلي حتى الآن لم ترق إلى مستوى رد حقيقي على تلك العملية.
لم يعرف أحد
حتى الآن لا يزال عنصر “المفاجأة” في عملية طوفان الأقصى، هو الجزء الأكثر أهمية وغموضاً في نظر الجميع، بما في ذلك ما يسمى “محور المقاومة” الذي واجه اتهامات طيلة الأسابيع الماضية بأنه كان وراء العملية نظراً لعلاقته بفصائل المقاومة الفلسطينية، لكن أمين عام حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، قال قبل أيام إن المقاومة لم تخبر أحداً بالعملية وأنه تفاجأ بها كالجميع، وهو ما قاله أيضاً قائد حركة أنصار الله في اليمن، عبد الملك الحوثي، في خطاب بعد أيام من بدء العملية.
وأما بالنسبة لإسرائيل فحتى الآن لا تتوفر أية إجابة عن الفشل الكبير في توقع العملية وفي الاستجابة لها بسرعة، حتى أن نتنياهو كان قد اتهم صراحة قبل أسبوع قادة أجهزة المخابرات “الشاباك” و”الأمن القومي” بالتسبب فيما حدث لأنهم أخبروه قبل العملية بأن “حماس لا تنوي التصعيد”، لكنه اعتذر لاحقاً عن الاتهام للحفاظ على صورة تماسك الحكومة الإسرائيلية التي لا زالت تتلقى السؤال نفسه من قبل المستوطنين الغاضبين: “أين كنتم يوم السابع من أكتوبر؟” ولا إجابة.
وقد انسحب الفشل الأمني والاستخباراتي على الولايات المتحدة أيضاً، لأن مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض، جيك سوليفان، كان قد قال في تصريحات رصدها “يمن إيكو” قبل العملية أن “الشرق الأوسط يشهد هدوءً”
لقد خدعت المقاومة الفلسطينية الجميع، ويجمع المراقبون على أن هذا الجزء بالذات من خطة العملية كان أهم عوامل النجاح الكبير والسريع الذي حققته.
ومن ضمن ما برهن على أهمية التوقيت الذي اختارته المقاومة الفلسطينية هو فشل إسرائيل في الاستجابة للهجوم بعد الفشل في توقعه، حيث تؤكد وسائل إعلام إسرائيلية من بينها “يديعوت أحرونوت” التي قالت في تقرير رصده يمن إيكو إن سلاح الجو الإسرائيلي “استغرق أكثر من ساعة ليشرع في الرد على المسلحين بالرغم من أن مروحيات الأباتشي كانت تتمركز قرب غزة” (لاحقاً سمحت الرقابة الإسرائيلية لوسائل الإعلام بنشر خبر يؤكد أن المقاومة أسقطت إحدى طائرات الأباتشي أيضاً خلال الأيام الأولى)
“الرد” الإسرائيلي:
يرى الكثير من المراقبون أن المقاومة قد حققت في أول أيام “طوفان الأقصى” الأهداف المرجوة من العملية وأكثر، وبصورة “حاسمة” حيث لم يعد بإمكان إسرائيل أن تفعل أي شيء للرد على ما حدث أو “إلغاءه”.
هذا ما يؤكده أيضاً رد فعل الجيش الإسرائيلي على العملية، والذي تمثل في أمرين أساسيين: الأول شن أعنف حملة قصف على قطاع غزة، وأيضاً على المستوطنات التي اقتحمها مقاتلوا المقاومة بهدف إخراجهم منها، ثم القيام بعملية برية في غزة لتحرير الأسرى و”القضاء على حماس”.
يشار إلى أن مقاتلي المقاومة استمروا بالاشتباك مع الجيش الإسرائيلي في عمق المستوطنات لعدة أيام برغم القصف والحشد العسكري، وقد أعلنت المقاومة أكثر من مرة أنها كانت تقوم باستبدال المقاتلين وتعزيزهم وهو ما ثبّت صورة الفشل العسكري الإسرائيلي، لكن المقاومة انسحبت في النهاية لأن البقاء في المستوطنات لم يكن مخططاً على الأرجح نظراً لأن القصف العنيف هو الرد المتوقع.
لكن المواجهات التي خاضتها المقاومة داخل المستوطنات تسببت في تحويلها إلى “مدن أشباح” بحسب تعبير بعض وسائل الإعلام العبري، وقد تم إخلاء عدد كبير منها في غلاف غزة، ولا يبدو حتى الآن أن هناك أي أفق لعودة المستوطنين في المستقبل إلى هناك، وهي نتيجة مهمة من نتائج عملية طوفان الأقصى التي تؤكد أن المقاومة فرضت واقعاً جديداً لن تستطيع إسرائيل العودة إلى ما قبله.
ولعل هذا ما دفع إسرائيل إلى التوجه نحو غزة بأهداف ذات سقف مرتفع للغاية مثل “تغيير شكلها إلى الأبد” و”القضاء على المقاومة” بالإضافة إلى خطة التهجير (التي يمكن القول إنها فشلت بسرعة بعد رفض مصر والأردن) وذلك من خلال القصف بالدرجة الأولى، ثم الغزو البري.
حملة القصف أسفرت حتى الآن عن مقتل أكثر من 10 آلاف مدني فلسطيني، بحسب آخر إحصائيات رصدها يمن إيكو، علماً بأن هناك قرابة 3 آلاف مفقود، وذلك إلى جانب قرابة 25956 جريحاً.
أما العملية البرية والتي تحولت إلى “توغل محدود” بناءً على اقتراح أمريكي بسبب عدم وجود أهداف “قابلة للتحقق”، حسب ما كشفت نيويورك تايمز، فقد أسفرت حتى الآن عن مقتل 35 جندياً وضابطاً اعترف بهم الجيش في تصريحات متفرقة، رصدها يمن إيكو.
وبين أرقام الضحايا الفلسطينيين وخسائر الجيش الإسرائيلي، لا توجد حتى الآن أية معلومة واضحة عن أي إنجاز حققه الأخير في غزة سواء على مستوى حملة القصف الجوي أو على مستوى العملية البرية المستمرة.
وبينما يستمر الانتظار لإعلان تحقيق أي إنجاز، كانت هناك العديد من التصريحات لقادة إسرائيل وعلى رأسهم نتنياهو ووزير الدفاع ومتحدث الجيش، كلها أكدت وجود “خسائر قاسية ومؤلمة” و”أمور صعبة لم تحدث من قبل”.
وهذه النتائج تشير بوضوح إلى أن الجيش الإسرائيلي غير قادر حتى الآن على فرض أي معادلة معاكسة للمعادلات التي فرضتها المقاومة الفلسطينية في طوفان الأقصى، وعلى رأسها معادلة تبييض السجون الإسرائيلية من كافة الأسرى مقابل إطلاق أسرى عملية الطوفان.
المقاومة متماسكة
ليست فقط الأرقام المعترف بها رسمياً هي ما يشير إلى فشل وغرق الجيش الإسرائيلي وعجزه عن تحقيق أي إنجاز، بل أيضاً عمليات المقاومة الفلسطينية التي يبث بعضها بالصوت والصورة في مشاهد تظهر تدمير العديد من الآليات من مسافة صفر، في الوقت الذي يحجم فيه الجيش الإسرائيلي عن نشر أي تفاصيل بخصوص عمليته البرية.
وبالإضافة إلى ذلك، واصلت المقاومة إطلاق رشقات صاروخية مكثفة على مختلف المدن والمستوطنات الإسرائيلية بما في ذلك تل أبيب، ولا زالت بين كل فترة وأخرى تطلق صواريخ كبيرة مثل “عياش” وطائرات مسيرة كما تنفذ عمليات تسلل خلف خطوط الجيش الإسرائيلي، وهو الأمر الذي يظهر بوضوح عدم تأثرها بالقصف الجوي ويؤكد أن الاجتياح البري لم ينجح حتى في إشغالها أو تضييق خياراتها.
وقد أعلنت المقاومة عن تدمير 27 آلية هذا الأسبوع خلال 48 ساعة فقط، وذلك إلى جانب 24 آلية كانت قد أعلنت عن تدميرها في وقت سابق بعد بدء العملية البرية.
التدخل الإقليمي
إلى جانب التماسك الذاتي للمقاومة الفلسطينية في غزة والذي يشكل مؤشراً ثابتاً على أن الجيش الإسرائيلي لن يستطيع الخروج من هذه الجولة بأي انتصار، فإن الحرب قد خرجت عن حدود فلسطين منذ أسابيع، مع دخول حزب الله اللبناني وفصائل المقاومة في العراق وحكومة صنعاء على الخط بتنفيذ عدة عمليات عسكرية على إسرائيل وعلى القوات الأمريكية في العراق.
ويمثل حزب الله الذي أشعل جبهة واسعة على طول الحدود بين لبنان وإسرائيل، اللاعب الأبرز في هذا الجانب من الصراع نظراً لقدرته على إحداث التأثير الأكبر في حال قرر التصعيد ضد إسرائيل، وهو ما لا تخفيه إسرائيل نفسها.
وقد أعلن الحزب في وقت سابق أنه قتل وأصاب أكثر من 120 جندياً إسرائيلياً فيما أعلنت إسرائيل إخلاء أكثر من 60 ألف مستوطن من الشمال جراء المواجهات مع الحزب، ويرجح أن هذه الأرقام قد ارتفعت بعد العمليات الأخيرة.
لكن دخول فصائل المقاومة في العراق وقوات حكومة صنعاء على الخط بالطائرات المسيرة والصواريخ البالستية والمجنحة كان تطوراً غير مسبوق لا يقل أهمية، لأنه كسر حاجزاً تاريخياً يتعلق بالمساندة العسكرية الإقليمية لفلسطين، وصنع معادلة إقليمية تقابل معادلة المساندة الغربية لإسرائيل، بشكل يهدد الولايات المتحدة الأمريكية في المقام الأول، والتي أعلنت وزارة دفاعها مساء الاثنين أن العشرات من جنودها أصيبوا بهجمات المقاومة العراقية على القواعد الأمريكية في سوريا والعراق.
ويرى مراقبون أن ثلاثي اليمن والعراق ولبنان، قد صنع بالفعل معادلة ستبقى ثابتة حتى إذا انتهت الجولة الحالية، خصوصاً وأن الولايات المتحدة لم تبد حتى الآن “الحزم” الذي أعلنت عنه للرد على هذا التدخل، وهو ما يعني أن الصراع في فلسطين قد أصبح بالفعل صراعاً إقليمياً من الآن وصاعداً.
وقد أعلن الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في خطابه الأخير، أن التحرك الإقليمي لمساندة المقاومة الفلسطينية يأتي تحت عنوانين “الأول إنهاء العدوان على غزة والثاني العمل على انتصار المقاومة” وهذه الأخيرة هي معادلة معاكسة للهدف الإسرائيلي المعلن والمتمثل بالقضاء على حماس، الأمر الذي يعني أن “محور المقاومة” لن يسمح بهزيمة المقاومة في غزة، وأن استمرار محاولات إسرائيل للقضاء عليها قد يصعد وتيرة العمليات الإقليمية وصولاً إلى مواجهة أعنف.
وفي ظل المؤشرات الواضحة على عدم رغبة الولايات المتحدة في توسيع الصراع (التصريحات حول ضرورة تطبيق هدنة إنسانية، واستمرار “ضبط النفس” تجاه عمليات المقاومة في العراق وضربات حكومة صنعاء) فإن آمال إسرائيل بتحقيق انتصار يرمم صورة الهزيمة التي حدثت في السابع من أكتوبر تبدو الآن بعيدة جداً عن التحقق، لأن الاستمرار في البحث عن هذا الانتصار يحمل مخاطرة إقليمية كبيرة لا تتحملها إسرائيل.
وبرغم أن الطريق الوحيد الذي يتبقى أمام اسرائيل هو اللجوء إلى المفاوضات، فإنه لا يزال من المبكر الحديث عن ذلك، لأن احتمالات التصعيد لا زالت قائمة.