خاص – يمن ايكو
بهدوء شديد يحدد النمر فريسته بدقة، ويبدأ بالتحرك نحوها بخفة ورشاقة لا تثير أي ضوضاء، إلى أن تصبح الفريسة في مدى سرعته، فيبدأ بالانطلاق نحوها بسرعة فائقة تمكنه من تحقيق هدفه.
التكتيك ذاته هو ما اعتمده الفيتناميون في حربهم مع أمريكا (1955 – 1975) بحسب ما جاء في مذكرات الضباط الأمريكيين في وصف هجمات الجنود الفيتناميين عليهم، وعلى النهج نفسه تمضي الدولة الأسيوية ذات الـ 100 مليون نسمة في تحقيق نهضتها الاقتصادية بصمت، واقتناص للفرص التي أوجدتها الحرب التجارية بين الصين وأمريكا.
من تحت أنقاض الحرب، تمكنت فيتنام من النهوض وتحويل صورتها النمطية كواحدة من أفقر دول جنوب شرقي آسيا إلى عملاق اقتصادي ينافس الصين في معدلات النمو واستقطاب الاستثمارات العالمية.
• تداعيات الحرب تضع اقتصاد فيتنام على حافة الانهيار
بعد نحو 20 عاماً من الحرب، أعلنت القوات الأميركية انسحابها من فيتنام عام 1974، وفي العام التالي توحد شمال البلاد مع جنوبها تحت اسم “جمهورية فيتنام الاشتراكية” وعاصمتها “هانوي” في الشمال.
كان الاقتصاد الفيتنامي آنذاك يعتمد على زراعة وتصدير الأرز كمصدر رئيس للدخل، ويعمل أكثر من 70% من القوى العاملة في زراعته، لكن الحرب أثرت بشكل كبير على إنتاج الأرز الذي لم يعد كافياً لإطعام السكان.
في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، بلغت الأزمة الاقتصادية ذروتها، خاصة مع الحظر التجاري الذي فرضته واشنطن بعد انسحابها من فيتنام، وفشلت السياسات الاقتصادية للحزب الشيوعي الحاكم في مواجهة الأزمات القوية التي تعرض لها اقتصاد الدولة، إذ تجاوزت معدلات التضخم نسبةً غير مسبوقة بلغت 770%، ولم تُجدِ المساعدات الدولية القليلة التي كان يعتمد عليها الاقتصاد في حل الأزمة.
• “فان لين” قائد النهضة الاقتصادية في فيتنام
عام 1986 وصل “نيجوين فان لين” لرئاسة الحزب الشيوعي، ومثل وصوله تحولاً جذرياً كاملاً في السياسات الاقتصادية، بعدما أطلق سياسات التجديد المعروفة باسم “دوي موي” وهي الحزمة التي بدأت معها النهضة الفيتنامية، ومعها اعتبر فان لين صاحب حجر الأساس في تحول الاقتصاد المحلي من المركزية إلى اقتصاد السوق.
بدأ “لين” خطته بإصلاح القوانين الخاصة بتملك الأراضي الزراعية، وبموجبها منحت الحكومة الحرية للمزارعين في زراعة أراضيهم وفقاً لرغباتهم، كما منحت الحكومة الحق لكل أسرة بتملك 3 هكتارات ضمن عملية ضخمة لتوزيع الأراضي الزراعية، لتصبح فيتنام ثالث أكبر مصدر للأرز في العالم عام 1989.
تزامنت تعديلات القوانين الزراعية بتعديل القوانين الخاصة بالاستثمارات الأجنبية، التي ساهمت بدورها في تطوير الصناعات الفيتنامية بشكل متسارع، بلغت ذروته مع رفع الحظر التجاري الأمريكي عام 1994، حيث ارتفعت قيمة استثمارات رأس المال الأجنبي لما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي، وتجاوز عدد الشركات الخاصة الناشئة 17 ألف شركة.
• تطوير البنية التحتية لمواكبة متطلبات التنمية
سعت فيتنام لعملية تنمية داخلية شاملة لبنيتها التحتية بإشراف مباشر من وزارة النقل التي استحدثت “وحدة إدارة المشروع 18” واستقطبت إليها أفضل الكوادر الهندسية والإدارية للإشراف على إنشاء العشرات من مشاريع البنى التحتية للنقل والمواصلات، كالطرق السريعة والكباري والجسور، وخصصت الحكومة للوحدة ميزانية سنوية ضخمة تتجاوز ملياري دولار.
هدفت هذه المشاريع بالأساس إلى ربط مدن فيتنام بريفها، من خلال شبكة واسعة من الطرق السريعة التي ساهمت بشكل كبير في تطوير كافة المقاطعات والمدن ومواكبة الاستثمارات وانتشارها في أنحاء البلاد.
مثلت شبكة الطرقات خطوة أساسية لتطوير كافة المرافق الخدمية الأخرى كالكهرباء والاتصالات، وساهمت مباشرة في الجهود الحكومية لتوفير الخدمات الصحية والتعليمية لجميع المواطنين.
• سامسونج أولى دعائم الاقتصاد الفيتنامي الصاعد
جهود فيتنام في توفير بيئة استثمارية مشجعة حققت أهدافها في جذب رؤوس الأموال العالمية، حيث بدأت استثمارات عملاق الإلكترونيات الكوري “سامسونج” عام 2008 برأس مال يعادل 670 مليون دولار، وفي عشر سنوات فقط بلغت القيمة التراكمية لاستثمارات الشركة 17 مليار دولار.
مهدت “سامسونج” طريق الاستثمار أمام الشركات العالمية المصنعة للإلكترونيات وعلى رأسها شركة “إنتل” الأميركية التي افتتحت منشأة لتجميع واختبار أشباه الموصلات بقيمة مليار دولار، وضخت استثمارات إضافية عامي 2019 و2020، لتصبح القيمة الإجمالية لاستثماراتها 1.5 مليار دولار.
وإجمالاً عادت تلك الاستثمارات على الدخل القومي بـ 58 مليار دولار عام 2018، وازدهرت صادرات فيتنام من الإلكترونيات وأجهزة الحاسوب ومكوناتها بمعدل سنوي بلغ 28.6%.
الطفرة التي أحدثتها الشركات العالمية جعلت واحداً من كل عشرة هواتف محمولة تنتج حول العالم يتم تصنيعه في فيتنام التي احتلت المركز العاشر في قائمة الدول المصدرة للإلكترونيات عام 2020م.
• في الحرب التجارية بين أمريكا والصين.. فيتنام هي المنتصر
يتداول الاقتصاديون الدوليون مقولة مفادها: ” لتصبح طبيباً جيداً كن طبيباً أثناء الحرب، ولتصبح اقتصادياً جيداً كن اقتصادياً في فيتنام”، وفي هذه المقولة إشادة مستحقة لتفوق الاقتصاد الفيتنامي ونبوغه في الاستفادة من المتغيرات الدولية وتحويلها إلى فرص تنموية لصالحه.
فبرغم العداء التاريخي بين هانوي وواشنطن، إلا أن الأخيرة ترى في فيتنام خير حليف لمواجهة القوة والهيمنة الاقتصادية الصينية المتصاعدة، ويرى اقتصاديون أن العقوبات الأمريكية على الصين تدفع بالشركات العالمية بقوة لنقل استثماراتها من الصين إلى فيتنام.
وبطبيعة الحال، تمكنت فيتنام من تحقيق الاستفادة القصوى من هذا الصراع لتحقيق مكاسب اقتصادية ضخمة، فمنذ وقت مبكر قامت فيتنام بدراسة قوانين الاستثمار في الصين ومدى تلبيتها لتطلعات الشركات العالمية، وعلى ضوء النتائج أصدرت قانون الاستثمار عام 2000 ثم قانون الشركات عام 2005، وكلاهما سمحا للشركات الأجنبية بامتلاك أغلبية الأسهم في الشركات المحلية، لتجد شركات الإلكترونيات العالمية ضالتها في فيتنام، حيث تفضل هذه الشركات أن تكون هي صاحبة القرار والمخولة بالتحكم في الجودة وضمان تسليم البضائع في الأوقات المحددة لها.
حتى جائحة كورونا مثلت فرصة ذهبية لفيتنام في الاستفادة من “سياسات الإغلاق” الصينية، لتطلق نسختها من سياسة “صفر كوفيد”، فسارعت الحكومة إلى تحصين سكانها لتعود الحياة إلى طبيعتها في البلاد على عكس الصين، وهذا ما دفع بالعديد من الشركات العالمية لنقل خطوط إنتاجها من الصين إلى فيتنام، وعلى رأسها شركة أبل التي تداولت تقارير اقتصادية عزمها نقل خط إنتاج جهاز آي باد من الصين إلى فيتنام، وحتى شركة “شاومي” الصينية نقلت بالفعل خطوط إنتاج بعض أجهزتها إلى فيتنام في يونيو 2021م.
ويستمر حرص فيتنام على تفوق بيئتها الاستثمارية أمام نظيرتها في الصين، حيث تشير الأرقام إلى أن تكلفة العمالة الفيتنامية أرخص من الصين بنحو 50%، كما يقل سعر الكيلو واط من الكهرباء في فيتنام بثلاثة سنتات، وفي جانب الضرائب تمنح فيتنام إعفاءات ضريبية للشركات تصل إلى 4 سنوات، مع تخفيض الضرائب عموماً بنسبة 2%، كما أن ضريبة الدخل- وهي الأضخم على الشركات- تنخفض عن نظيرتها في الصين بنسبة تتراوح بين 5-7%.