بقلم: د. عبده يحيى الدباني
إن الحديث عن الفستق واللوز والعسل، ونحو ذلك من الأشياء، يُعدُّ نوعاً من الترف في هذه الأيام التي تسحق الناس بغلاء الأشياء الأساسية الضرورية، مثل الطحين والأرز والسمك والسمن والبترول والغاز والمواصلات وغير ذلك. وحاشا الله أن نكون من المترفين المسرفين، ولكن أن تصل الحبة الفستق أو اللوز إلى ثلاثين ريالاً فهذا مؤشر خطير يدل على فداحة الوضع وتدهوره معيشياً واقتصادياً، ومن وراء ذلك سياسياً وأخلاقياً.
ولكن ما حكاية الفستق في هذا المقال ومن هذا الذي يبيع الفستق أو اللوز بالحبة؟
مررت قبل أيام أمام محل بهارات فاشتاقت نفسي إلى حبيبات من الفستق أقرعها تحت سني خاصة المغلقة منها تماماً. تحسست جيبي فوجدت فيه ثلاثمائة ريال فدفعت باب المكان ودخلت، فلما رآني البائع استبشر خيراً وظن أنني سأشتري كيلو من العسل مثلاً أو كيلو من اللوز أو غير ذلك من الأشياء الثمينة، فمددت له يدي بما لدي وقلت له أريد فستقاً، لم يقل شيئاً فأدخل فم المغرف في حوض الفستق وأخرج حبيبات معدودة حزرتها عشراً أو أكثر قليلاً، فوضعها في الميزان فقلت له ما هذا؟! قال هذا حقك مع زيادة عشرين ريالاً مني، قلت إذاً لماذا لا تبيعون الفستق واللوز بالحبة فلعل هذا أخرج لنا ولكم؟ ضحك وفهم نغمة الاحتجاج في كلامي، قلت له فبكم ستكون الحبة وفق هذا الميزان اليوم؟! فكر قليلاً وقال: “خمسة وعشرين ريالاً”.
قفلت عائداً إلى البيت أستمتع بأكل الفستق مع لذعة ملح لذيذة، وفي الطريق سقطت واحدة من الحبيبات فوقفت وانحنيت بحثاً عنها، فكيف أترك حبة فستق قيمتها خمسة وعشرون ريالاً، فهذا عبث وبطرة.
لقد قرأت يوماً في أخبار سوريا الشقيقة في أيام عزتها ونعمتها أن المرأة كانت تمشي في الشارع تحمل أقراص العيش الكبيرة، فإذا سقط واحد منها إلى الأرض لم تلتفت إليه ولم تأبه له، وقرأت كذلك في أخبار العراق الشقيق في زمن الرخاء والخير أن العراقيين لم يكونوا يأكلون أي طعام مبيّت من اليوم السابق، وكان مصير ذلك الأكل المزبلة والنفايات.
مع أن شاعرنا العراقي الكبير بدر شاكر السياب قال في قصيدته (أنشودة المطر):
ما مر عام والعراق ليس فيه جوع!
….
ولكن يبقى السؤال هنا ماذا فعلنا نحن في هذه البلاد حتى يحل فينا ما حل؟!
عموماً فقد عثرت على الفستقة معفرة بالتراب فمسحتها جيداً وأدخلتها في صويحباتها ومضيت لأكتشف أن حبتين من الفستق التي معي داخلهما هواء أي أنهما فاسدتان، يعني أن خمسين ريالاً ذهبت بلا شيء، أو قل بلاش حسب دمج الكلمات الثلاث في كلمة واحدة.
في يوم من الأيام حينما كنا مجندين في معسكر البحرية في منتصف الثمانينيات، كنا في واجب عمل يتمثل في نقل أكياس الإسمنت من فوق البوابير إلى قاع السفينة التي ستبحر بعد أيام من ذلك إلى جزيرة سقطرى قبل أن يهيج البحر عواصف وزوابع فينقطع إبحار السفن إلى الجزيرة ، وبينما كنا في استراحة لدقائق لمحنا أنا وزميلي (دكان الجندي) أمامنا فذهبنا إليه، فوجدنا فيه أشياء كثيرة تخص الجنود وعوائلهم بأسعار مناسبة ، ولما أردنا أن نشتري شيئاً من هنالك فتشنا في جيوبنا فلم نجد إلا قيمة حبة شراب كندا دراي، وأظنها ثلاثة شلنات، والحقيقة كنا في عمل خارج معسكرنا وكنا نلبس بدلات رياضة (نص) ولا نستطيع أن نخرج بها إلى الشارع، مع أنها كانت جافية وساترة وعادة لانحمل فيها فلوساً، أما إذا أراد أحد المجندين أن يهرب من جراء ضغوط العمل العسكري فإنه لا يستطيع الهروب مرتدياً إياها والتنقل بها من مكان إلى آخر. تقدمنا معاً واشترينا قارورة الشراب وتنحينا بها جانباً نشربها، كل منا يشرب قليلاً فيعطي صاحبه حتى لفظت أنفاسها في أنفاسنا، ثم أعدناها إلى صندوق الفارغ تبع الشركة، وحين رآنا أحد الضباط، علق قائلاً: كيف تشترون حبة شراب واحدة وتشربونها معاً؟ فمن يراكم سيقول إننا نعاني من مجاعة!
وفي الحقيقة لم تكن هناك مجاعة فقد كانت الأشياء الضرورية الرئيسية متوفرة وبأسعار مناسبة ومدعومة من قبل الدولة.
أما عن شرب الشاي في المعسكر فحدث ولا حرج، فقد كان جماعياً حيث تجد كل خمسة أو ستة من الجنود والمجندين يحتسون الشاي في علب فاصوليا كبيرة يتنازعونها شربةً شربةً، وفي ذلك متعة استقبالاً ليوم عمل مضنٍ أو توديعاً له، والأجمل من ذلك أن تلك المجاميع كانت ممزوجة من كل مناطق الجنوب، كما هو مزج الشاي والماء والسكر والحليب الذي يشربونه من تلك العلب صباح مساء.
اشتكى الشاعر شايف محمد الخالدي أبو لوزة، رحمه الله، ذات يوم من الغلاء فقال فيما قال:
من اين عاد الراس بايفتهن
والجوف من داخل ملانه
والزنجبيل الرطل تسعة شلن
والحبة الكبريت عانة
فكيف بالخالدي لو عاش إلى هذا الزمان، ماذا كان سيقول عن
جنون الأسعار وهذا الانهيار.