بقلم: د. منذر سليمان و جعفر الجعفري
ترافق تفشي جائحة كورونا مع تحذيرات متتالية من أقطاب كبريات الصناعات العالمية، وخصوصاً الغربية، من تبلور أزمة في “سلسلة التوريد”، بدءاً من شح المعروض عالمياً من الشرائح الموصلة، وصولاً إلى أزمة غذائية تعاني منها بريطانيا ودول أخرى مرشحة، فضلاً عن تردّي الرعاية الصحية وارتفاع ملحوظ في نسبة الإصابات المتجدّدة بكورونا، واكبهما صراع إرادات لشرائح واسعة من الشعب الأميركي ترفض اللقاح وإجراءات الوقاية.
من البديهي أن الأزمة الراهنة ليست وليدة اللحظة، بل هي تتويج لسياسات العولمة “النيوليبرالية” التي سعت جاهدة لتفكيك أركان الموارد الاقتصادية وخصخصتها لمصلحة فئة أو شريحة اجتماعية ضيقة، تزداد ثراء بوتيرة متسارعة، يرافقها اتساع الهوة والفوارق الاقتصادية ومصادر الدخل بينها وبين معظم الفئات الأخرى.
كما تلعب المؤسسات المالية الدولية، البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية، دورها في رهن موارد الشعوب الأخرى، لقاء تقديم ديون عاجلة سرعان ما يتبيّن أن الدول المعنية تخفق في سداد ما يترتب عليها وتلجأ للاستدانة المركبة مرة أخرى (راجع كتاب الأميركي جون بيركينز “اعترافات قاتل اقتصادي” أو “الاغتيال الاقتصادي للأمم” في ترجمة أخرى).
ماذا يجري للاقتصاد الأميركي؟ سؤال يتردّد على ألسنة المختصين والإعلاميين والمعنيين على السواء. التوصيف مذهل في صراحته ومقلق في تنبؤاته: “الاقتصاد الأميركي مصاب بالذعر. المختبرات الطبية شارفت على استنفاد مخزونها من المعدات الأساسية، والمطاعم تعاني صعوبة في توريد الأطعمة، وشركات إنتاج السيارات والطلاء والإلكترونيات تخفض معدلات إنتاجها لنقص في أشباه الموصلات”، فضلاً عن قطاع الحافلات لنقل الموارد والمعدات الضرورية، وهي تعاني من نقص في قطع الغيار، علاوة على تناقص عدد السائقين نتيجة الإصابات بكورونا وابتزازهم بأجور متدنية من قبل الشركات الكبرى.
قطاع النقل الحيوي يعاني أيضاً من اضطرابات متتالية، وخصوصاً القطارات والسكك الحديدية، ونقص العرض من عربات القطار المخصّصة للشحن وحاويات الشحن البحري. للدلالة على عمق الأزمة البنيوية، أوضح رئيس هيئة النقل البري الأميركية، مارتن أوبرمان، أن تقليص هيئة السكك الحديدية لخدماتها كان “بدافع ترضية مستثمري وول ستريت”، ما تسبب في اختناق الموانئ الأميركية من تراكم الحاويات (1 تشرين الأول/أكتوبر 2021).
ويفيد أحد البيانات الرسمية بأن ميناء لوس انجلس ينتظر تفريغ 70 سفينة شحن كبيرة محمّلة بنحو “نصف مليون حاوية، راسية في عرض البحر”، ومعدّل فترة الانتظار يصل إلى 8 أيام، مع ما يرافقه من تراكم في كلفة الشحن وانعكاسها على أسعار البضائع المعروضة.
يستدلّ من تبعات “نقص أشباه الموصلات”، بنسبة 638% عن معدل العام الماضي، كما هي السردية الرسمية لتحميل المسؤولية عنها للصين، بانكشاف سوء الإعداد والتخطيط لدى المشرفين على القطاع الاقتصادي الأميركي، وما نجم عنه من أزمات متتالية: نقص عدد خزانات الغاز الطبيعي، تحت عنوان تقليص حجم انبعاثات الغازات الضارة بالبيئة، أسفر عن نقص في توريد غاز ثاني اوكسيد الكربون، ما انعكس على تقليص العرض في مادة البنزين، والذعر الناتج عن ذلك في بريطانيا.
البيانات الصادرة عن المؤسّسة الدولية لمراقبة سلسة التوريد، “ريزيل إنك”، أفادت بأن معظم الاضطراب في عملية التوريد كان من نصيب الولايات المتحدة، 46.5%، يليها بالترتيب دول الاتحاد الأوروبي، 23.43%، تتبعها الدول الآسيوية بنسبة 19.45%.
مسبّبات اضطراب آلية التوريد تنسب رسمياً إلى تبعات جائحة كورونا، لكنها ليست الأكبر حجماً. وأوضح نائب رئيس هيئة إدارة سلسلة التوريد الأميركية، دوغلاس كينت، أن من غير الجائز إلقاء اللوم على الجائحة، “لكنها كشفت بعض الثغرات في سلسلة التوريد بالتأكيد، بعضها عملياتي والبعض الآخر استراتيجي، وهي التي ستمثّل التحدي الأصعب للتغلب عليها” (نشرة “ترانسبورت توبيك” (Transport Topic) 26 آب/أغسطس 2021).
“الثغرة الاستراتيجية” التي أشير إليها تكمن في توجهات الحكومة الأميركية التي اهتمت بعدد محدود من القطاعات الحيوية في معالجتها أزمة التوريد: الصناعات الدفاعية، الصحة العامة وصناعة الأدوية، المعلومات والاتصالات، وقطاع الطاقة (مجلة “فوربز”، 6 آب/أغسطس 2021).
بدأ العام الدراسي في الولايات المتحدة متعثراً. مثلاً، “مدارس ولاية ويسكونسن تعاني من نقص في مادة البروتين مثل الدجاج، بينما حافلة محملة بلحم البقر (هامبورغر) لم تصل لوجهتها، ومخبز مورّد أعلن عن نفاد كعك السندويشات” (شبكة “أن بي سي” للتلفزة، 30 أيلول/سبتمبر 2021).
وأضاف تقرير للشبكة أن “الأزمة تتفاقم حدّتها” لاضطراب توريد الأطعمة إلى طلبة المدارس، خصوصاً بعد تقديم وزارة الزراعة الفيدرالية تعهدات لمختلف قطاعات التربية بأنها ستموّل كلفة “وجبة غداء مجاناً”، لنحو 30 مليون طالب، لتخفيف حدة تبعات أزمة كورونا على الأهالي، ولا سيما الشرائح الأشد فقراً.
وأفادت شبكة تلفزيونية محلية في واشنطن العاصمة بأن مقاطعة المدارس العمومية في ضاحية “برينس جورجز” أعلنت توقفها عن توفير وجبة عشاء مجانية “لبعض الطلبة، نتيجة تعثّر سلسلة التوريد ونقص الموارد في عموم البلاد” (شبكة “دبليو تي او بي” (WTOP)، 30 أيلول/سبتمبر 2021).. في ظل تلكّؤ قمة الهرم السياسي الأميركي عن استحداث برامج وخطط عملية للحد من تفاقم الأزمة المركبة الراهنة، فإنها تزداد حدةً واتساعاً، وتراوح مساعي ضخ بعض الأموال مكانها وهي مخصّصة لترميم البنى التحتية المهترئة في إطار برنامج الرئيس جو بايدن.
في المقابل، لا يجد سياسيّو الحزبين حرجاً في جاهزية مصادقتهم على الإنفاق على المعدات العسكرية، بل أضافوا إلى الميزانية السنوية المقترحة المتضخمة أصلاً مبلغ “25 مليار دولار”.
بعيداً عن التجاذبات والاصطفافات السياسية التقليدية، تشكّل شبه إجماع على أن إدارة الرئيس بايدن “أثبتت عجزها عن الاستجابة السريعة لمعالجة الأزمات”، بالإشارة إلى ما رافق الانسحاب الأميركي المضطرب من أفغانستان، الذي أتبع بشن غارة عبر طائرة مسيّرة على حافلة تقل مدنيين، بعد بضعة أيام من إنجاز الانسحاب.
تبعات كورونا الجديدة تسهم في إنضاج ظروف الاضطرابات الداخلية التي تغذيها الأزمة المالية بارتفاع أسعار الموارد الاستهلاكية، وارتفاع ملحوظ في كلفة المأوى والسكن، مضاف إليها ازدياد كلفة مصادر الطاقة على أبواب فصل الشتاء وبرودته القارصة.
تنبغي الإشارة إلى فشل مؤسّسات الدولة والحكومات المحلية في احتواء نقص موارد الطاقة في ولاية تكساس، حين تعرّضت لموجات ثلجية قاسية أسفرت عن وقوع ضحايا بين المدنيين وانقطاع التيار الكهربائي بالكامل عن بعض المناطق، استمر لعدة أيام، من دون حل. بعبارة أخرى، تلك كانت نتيجة حتمية لسياسة خصخصة المرافق العامة، مصحوبة بغياب رقابة مركزية حقيقية.
الانقسامات الاجتماعية العمودية واتساع الهوة الاقتصادية بين شرائح الأغلبية وأقلية الأثرياء لا تجد لها حلولاً أو توجهات حقيقية لمعالجتها، وأجهزة الدولة المختلفة تلمس تفاقم الأزمة الاجتماعية محذّرة من وصولها لمرحلة العصيان المدني، ومدركة أن اتساع رقعة الأزمة في القطاعات الحيوية الثلاثة، الطاقة والغذاء والمسكن، ستفجّر الاضطرابات والاحتجاجات.
* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الأبحاث الأميركية