د. عبدالله باحجاج *
في مقالنا السابق المعنون باسم (هل سنودع الدوغماتية «التعصب والتشدد» في منطقتنا الخليجية) كنا قد تحدثنا عن دور السياسة الإقليمية في القضاء على الدوغماتية «التشدد والتعصب» في منطقتنا الخليجية «عربها وفرسها» بعد أن اتخذت السعودية خطوتين استراتيجيتين تاريخيتين هما: التوجه نحو تحرير التأطير الديني من التعصب والتشدد «الدوغماتية»، والآخر: التسليم بإقامة علاقات طبيعة مع إيران – يراجع المقال المعنون باسم «هل سنودع الدوغماتية في منطقتنا الخليجية».
وقد وسعنا مفهوم القضاء على التشدد والتعصب «الدوغماتية» ليشمل كل أشكالها وأنواعها، وليس حصريا على المذهبية… ورشحنا السلطنة لقيادة صناعة المرحلة الإقليمية الجديدة، لتجربتها الناجحة في تعايش أشكال تعددها وتنوعها، وانصهارها في منظومة علاقات اجتماعية، وبسبب كذلك نجاحها في الحيلولة دون غزو الدوغماتية الإقليمية لداخل حدودها.
لكننا حذرنا في ختام المقال من أن هذا – التعايش والانصهار – يحتاج لضمانة ديمومته من التداعيات الناجمة عن التحولات المالية والاقتصادية، وكذلك التحولات الإقليمية في هوية الدولة، وهذه الضمانة معني بها كذلك، كل دول المنظومة الخليجية، لأنها تتبنى نفس التحولات المالية والاقتصادية، ومن ثم عليها التفكير في عصر ما بعد هذا التحولات.
وللأسبوع الثاني، نطلق تفكير استشرافي عميق للمآلات الناجمة عن التحولات المالية والاقتصادية في دول مجلس التعاون الخليجي، فهذه التحولات ليست مجردة من انعكاساتها الاجتماعية والسياسية، بل هي ناتجة لها بالتبعية التلقائية، والمخاوف من إنتاجها دوغماتية الفقر، هذا يحتل قمة هواجسنا الآن، ونخشى من تقاطعها مع الدوغماتيات القديمة – في حالة عدم اتفاق دول المنطقة – عربها وفرسها – على القضاء عليها، وحتى لو اتفقت، فإن دوغماتية الفقر الأخطر، وسيكون من السهولة اختراقها لكل أيديولوجية أو دوغماتية تملك المال، وسيكون الشباب هم المستهدفون، وهم ضحايا التحولات في الخليج، وهنا يمكننا تخيل المشهد بتصوراته الذهنية التحتية والفوقية على صعيد كل دولة من جهة، وعلى صعيد المنظومة الخليجية من جهة ثانية.
بل ينبغي أن نوسع التخيل من كل أبعاده، وندعو إلى تأمل أمكانية تقاطع دوغماتية الفقر مع أيديولوجيات سياسية قديمة وجديدة، داخلية وإقليمية وعالمية، ستجد في البيئات التي تنتجها التحولات المالية والاقتصادية في الخليج، تربة خصبة للنمو وإعادة الذات مجددا، والاختراق السهل، وربما علينا هنا أن نخص بالذكر الأيديولوجية الصهيونية، بعد تطبيع عواصم خليجية معه، ورأينا سرعان ما رسخ هذا الكيان فيها وجوده الاقتصادي والأيديولوجي والسياسي، والشركات الجديدة التي أقامها في الدول المطبعة، تعطينا المشروعية أن نعلي مخاوفنا من اختراقه الشباب الخليجي بعد أن نجح في ذوبان بعض النخب الخليجية إلى مستوى الوقوف معه في عدوانه على فلسطين التاريخية ومع قضاياه الاستعمارية.
واللافت أن هذا الملف – دوغماتية الفقر وخطورتها – لا يلقى الاهتمام السياسي المستحق من قبل الحكومات الخليجية لثلاثة أسباب، الأول: انشغالها بصناعة الاستدامة المالية تحت ضغوطات جائحة كورونا والأزمة النفطية، دون إعمال الفكر بانعكاساتها الاجتماعية على المدى المنظور. والثاني: الانشغال كذلك في نقل مفهوم الدولة الجديد في الخليج، من الدور الريعي إلى الدور تحصيل الضرائب لمواجهة تداعيات مالية طويلة الأجل، دون أعمال الفكر أيضا في انعكاساتها السياسية والاجتماعية معا، وهنا نلاحظ غياب الاهتمام الزمني المزدوج. والثاني: الأبعاد – السياسي والاجتماعي – والثالث: غياب الوعي السياسي للفاعلين التنفيذين الجدد في الخليج.. وإغراقهم في مواجهة لحظة التحديات، دون أن يرفعوا فكرهم لرؤية المستقبل.
ومن خلال أرقام وإحصائيات اجتماعية على مستوى دول المنطقة الخليجية، يمكن أن نبني استشرافاً مسبقاً، وأكثر صداعاً لتأثير التحولات المالية والاقتصادية، ودورها في صناعة الفقر، ومآلات هذا الأخير على الاستقرار العام من جهة، وصناعته كذلك لأشكال سياسية، وأحياء أيديولوجيات قديمة، وتقاطعها مع أيديولوجيات إقليمية مسيسة من خلال ما سبق ذكره.
وتستوقفني كثيراً المرجعية التي يتأسس بها مفهوم دور الدولة في الخليج، فهو يقوم على مرجعية النظرية الكلاسيكية التقليدية لدور الدولة، وشواهد هذا التأسيس كثيرة، أبرزها فرض الضرائب والرسوم… والتغير الجذري في دعم الحكومات الخليجية لمجتمعاتها -مع التباين- واقتصار الدعم على الفئات الأكثر تضررا، وفي حدود ضيقة جدا، في تحول دراماتيكي لدور الدولة في الخليج الذي أسس المجتمعات الخليجية، وبنى علاقتها مع أنظمتها طوال الخمسين سنة الماضية.
ولا نعني هنا، أننا نتمسك بالدور الريعي، فهو أساس المشاكل في الخليج، وإنما مع الاعتداد بالبعد الاجتماعي الشامل، فالنظرية الكلاسيكية بمفهوم تطبيقاتها الراهنة التي وراءها صندوق النقد الدولي لا تصلح للمنطقة الخليجية بمفهومها المجرد، ومخاطرها، ستكون قلب ثوابت المنطقة، وتغيير علاقة مجتمعاتها مع سلطها السياسية رأسا على عقب، فالتحولات في الخليج، وستظهر جدلية الحقوق والواجبات في ظل غياب الدولة المدنية، واجبات حتمية على المجتمع، وهي تتجلى هنا في منظومة الضرائب والرسوم.. وحقوق اجتماعية، وهي أساسية بامتياز.
وستفرض المطالبة بالاستحقاقات السياسية نفسها بقوة، بعد تمكن الدول الخليجية أولا من امتصاص التداعيات الاجتماعية، وهي تداعيات ستشغل بعض الدول الخليجية أكثر من غيرها لتباين أوضاعها المالية، في ظل جائحة كورونا، وتقلبات أسعار النفط، لكن الدول الأخرى، لا ينبغي أن تفرح بمشاكل غيرها، فالدول الست كلها في مركب واحد، سواء كانت الإكراهات اجتماعية أولا، أو سياسية ثانيا، وكلها إكراهات حتمية نتيجة التحولات المالية والاقتصادية الراهنة.
وتكاد تكون الدول الخليجية الست متفقة- دون اتفاق أو حتى التنسيق فيما بينها- على تلكم التحولات التاريخية، فسياساتها المالية والاقتصادية تكاد تكون واحدة، وهي تدفع بها إلى تبني نظام الضرائب، وحتى لو تأملنا في رؤاها الاقتصادية الطويلة الأجل، تكاد كذلك أن تكون متشابهة، وإن اختلفت في بعض التفاصيل، وهذا يعني أن مستقبل التحديات السياسية الناجمة عن التحول في دور الدولة في الخليج، ستكون واحدة، وإن تباينت الآن حدية التداعيات الاجتماعية بين دولة خليجية وأخرى.
ولن نغادر قضية التداعي الاقتصادي ودوره في تأسيس دوغماتية الفقر، حتى نعيد كشف المشهد الثنائي المتناقض داخل مسيرة كل دولة خليجية لدواعي رفع الوعي السياسي، فلو تأملنا في الخطط المالية الخليجية المتوسطة المدى لمواجهة أزمة نقص السيولة، فأول ما يسجل عليها، أنها تنقل موازنات الدول الخليجية إلى مناطق الأمان نسبيا، في المقابل تترك مجتمعاتها خلفها بمسافات بعيدة وعميقة، لو استمرت وتأصلت سيصعب ردمها، والصعوبة كذلك في عودة الأوضاع الاجتماعية إلى ما كانت عليه، دون أثمان سياسية واجتماعية.
فالمجتمعات البشرية التي لا تجد مستقبلها في الخطط المالية والاقتصادية لدولها، تفقد الأمل في المستقبل، وترجع للماضي كردة فعل لإبراز الذات، وتتقوقع على ذوات فردية ومعنوية ضيقة وحادة، وتستدعي الماضي بتاريخه الفئوي والاجتماعي ويجعلها حبيسة استرداد ماضيها؛ لأنها لم تعد جزءاً من منظومة الانتقال للمستقبل، من هنا نرى ضرورة تشكيل إدارة سياسية، تملك الوعي الكامل بكامل الخلفيات الداخلية والخارجية، والمالات المستقبلية لإدارة المرحلة الراهنة، فأدوات الإدارة الاعتيادية للمؤسسات قد تجاوزتها المرحلة الراهنة، وما شهدنا من نماذج إدارتها – أقوال وأفعال – يدلل على حتمية المرجعية السياسية الحاكمة للأداء المؤسساتي التنفيذي.. حتى لا تنتج لنا دوغماتيات يصعب السيطرة عليها.. الخ.
* كاتب عماني
نقلا عن جريدة عمان
09 يونيو 2021