تحليل خاص- يمن إيكو
وإن اختلفت مسمياتها، فإن السياسات التي تنفذها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في التعامل مع دول العالم، تهدف إجمالاً إلى بسط هيمنة واشنطن على دول العالم، بدءاً بسياسة الرئيس ترومان المعروفة باسم “سياسة الاحتواء”، ووصولا إلى السياسات الخارجية للإدارات الأمريكية الحديثة، بما في ذلك استراتيجية باراك أوباما المعروفة باسم “القوة الذكية”، وسياسة “أمريكا أولا” التي أعلنها دونالد ترامب، وخطة “إعادة البناء بشكل أفضل” التي وضعها جو بايدن.
وبطبيعة الحال تترافق هذه الهيمنة مع تحقيق مكاسب كبيرة للاقتصاد الأمريكي الذي يعتمد على صناعة السلاح وتصديره لدول العالم، بالإضافة إلى فرض الحماية- مدفوعة الثمن- على حلفائها، وتحقيق أقصى استفادة من النزاعات والأزمات التي أصبحت واشنطن مصدرها الرئيسي.
متلازمة الحروب وانتعاش الاقتصاد الأمريكي
منذ الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) وعلى الرغم من إعلان أمريكا الحياد في بداية الحرب، إلا أنها كانت المستفيد الحصري منها، في ظل الانهيار الاقتصادي والدمار الذي لحق بمعظم دول أوروبا وروسيا، حيث بلغت القروض الأمريكية المقدمة لفرنسا وبريطانيا نحو22 مليار دولار، كان أغلبها على شكل أسلحة وأغذية وملابس عسكرية أنتجتها المصانع الأمريكية لقوات الحلفاء.
وتكرر النهج ذاته في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إذ حوّلت الحرب واشنطن إلى خلية من مصانع الأسلحة، ما ساهم في إنهاء ركود الاقتصاد الأمريكي المسمى بالكساد الكبير (1929- 1940).
المحطات والشواهد التاريخية على نهج الولايات المتحدة في الاستفادة من الحروب كثيرة ومتعددة، إلا أن الجدير بالاهتمام هو أن الحروب أصبحت متلازمة دائمة لانتعاش الاقتصاد الأمريكي، وهذا ما يفسر التزام الرؤساء الأمريكيين بتأجيج الصراعات، ومناطق النزاعات حول العالم بما يتناسب مع مصالح الولايات المتحدة.
وظهر هذا الدور جلياً مع قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1978، وكيف استطاعت أمريكا أن تصور هذه الثورة كفزاعة في وجه دول الخليج الغنية بالنفط بهدف استنزاف ثرواتها في شراء الأسلحة الأمريكية وتمويل الحروب التي أشعلتها في المنطقة.
دعمت واشنطن الرئيس العراقي صدام حسين في حرب الأعوام الثمانية ضد إيران (1980- 1988) بتمويل خليجي، تلاها حرب الخليج الثانية (1990-1991) التي قادتها أمريكا ضد حليف الأمس صدام حسين لتحرير الكويت، وانتهت بإنشاء قواعدها العسكرية في معظم دول الخليج، تبعها حرب الخليج الثالثة (2003) والتي انتهت بالاجتياح الأمريكي للعراق وفرض السيطرة الأمريكية على كامل دول الخليج.
الدور الأمريكي في إشعال الحرب الروسية الأوكرانية
أوكرانيا ذات الحدود الممتدة مع روسيا وشريكها التاريخي فيما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي، حظيت كغيرها من دول أوروبا الشرقية بتشجيع أمريكي أوروبي للانضمام إلى الناتو، رغم رفض نسبة كبيرة من سكان أوكرانيا ذوي الأصول الروسية، إلا أن التدخلات الأوروبية الأمريكية في أوكرانيا تزايدت في 2017 عندما وقعت أوكرانيا اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وفتحت أسواقها للتجارة الحرة وتبادل السلع والخدمات والسفر، مع إعفاء الأوكرانيين من تأشيرة الدخول إلى دول الاتحاد الأوروبي.
عام 2019 فاز الممثل الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الموالي للغرب برئاسة البلاد، وناشد في منتصف 2021 الرئيس الأميركي جو بايدن لدعم انضمام كييف إلى حلف الناتو، وهو ما ترفضه روسيا وتعده انتهاكاً لسيادتها وتهديداً لأمنها القومي.
مناشدة زيلينسكي لأمريكا أتبعها بتحركات لقمع المعارضة الرافضة لانضمام أوكرانيا للناتو والاتحاد الأوروبي، وهذا ما دفع روسيا للتحرك عام 2021، حيث تزايدت الحشود العسكرية على حدود البلدين، وهو ما عجل بلقاء الرئيس الأميركي ونظيره الروسي عبر مكالمة فيديو دعا من خلالها بوتين حلف الناتو إلى إنهاء التوسع باتجاه الشرق، في حين هدد بايدن بفرض عقوبات اقتصادية قاسية إذا تدخلت روسيا في أوكرانيا، لتندلع الحرب في فبراير 2022.
العقوبات الاقتصادية الأمريكية على روسيا أم على أوروبا؟
بهدف خلق عزلة اقتصادية فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على موسكو عقوبات اقتصادية كان أبرزها فرض حظر على الصادرات الروسية وفي مقدمتها النفط والغاز.
والمفارقة أن روسيا استطاعت الاستفادة من العقوبات، فبينما كانت كلفة مشتريات الاتحاد الأوروبي من النفط والغاز الروسيين تقدر بمليار دولار يومياً، فإن إعلان دول أوروبا بأنها ستتوقف عن شراء الطاقة الروسية تسبب في رفع أسعار النفط والغاز عالمياً، الأمر الذي ضاعف تقريبا إيرادات روسيا المالية من النفط والغاز خلال الأشهر الثلاثة الأولى لعام 2022، إذ بلغت 78 مليار دولار، مقارنة بحوالي 40 مليار دولار خلال الأشهر الثلاثة نفسها من العام 2021، استنادا إلى بيانات وزارة المالية الروسية.
وعلى النقيض أثبتت العقوبات ضعف الاتحاد الأوروبي واعتماد دوله الكامل على روسيا، وكأنها فرضت عقوباتٍ على نفسها بحرمانها من الغاز الروسي رخيص الثمن.
وكشف مرور عام على هذه الحرب أن أكبر المتضررين من هذه العقوبات هي الدول الأوروبية التي انساقت بشكل أعمى مع واشنطن متجاهلة الخسائر الفادحة التي ستتكبدها والمقدرة حتى الآن بنحو تريليوني دولار منذ بداية الحرب.
ومنذ عقود تعتمد أوروبا على روسيا في تلبية 40 % من احتياجاتها من مصادر الطاقة وبالذات الغاز المسال الذي تجاوزت نسب اعتماد بعض الدول عليه الـ 90٪ بالنسبة لفنلندا ولاتفيا، بينما وصل إلى 89٪ بالنسبة إلى صربيا، أما بلجيكا فبلغت نسبة اعتمادها على الغاز الروسي 77٪، وألمانيا 49٪، وإيطاليا 46٪، وبولندا 40٪، أما فرنسا فوصلت النسبة إلى 24٪.
ولم تقتصر خسائر الحرب التي لحقت بأوروبا على ارتفاع كلفة توفير سلعة الغاز، بل بدأت هذه الدول تواجه كساداً اقتصادياً وارتفاع معدلات التضخم والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود، وترافقت هذه الانتكاسات مع إضرابات ومظاهرات حاشدة شهدتها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية.
كما أن عامل الجوار بين أوروبا وأوكرانيا كلف الأولى تبعات الحرب التي أسفرت عن نزوح أكثر من 5.6 مليون لاجئ أوكراني إلى أوروبا، في حين هاجر 7.7 مليون آخرين من منازلهم بحثًا عن الأمان في مناطق حدودية، تتحمل دول أوروبا تكلفة إغاثتهم.
الالتزام الأوروبي بالدفاع عن أوكرانيا شكل عبئاً إضافياً على اقتصادات دول القارة العجوز المنهكة أصلاً، حيث تتحمل أوروبا تزويد أوكرانيا بمنظومات الدفاع الجوي والدبابات وراجمات الصواريخ وغيرها من الأسلحة للصمود أمام الترسانة العسكرية الروسية الضخمة، وتشير التقديرات الأولية لكلفة المساعدات العسكرية الأوروبية لأوكرانيا بـ14 مليار دولار، بينما بلغت مساعداتها المالية والإنسانية نحو 40 مليار دولار، ناهيك عن فاتورة إعادة إعمار أوكرانيا – المفتوحة – والمقدرة بنحو 600 مليار دولار حتى الآن، وبطبيعة الحال ستتحمل أوروبا الجزء الأكبر من هذه الفاتورة.
مصائب الاقتصاد الأوروبي فوائد للاقتصاد الأمريكي
تحقق الحرب الروسية الأوكرانية الأهداف الاقتصادية والاستراتيجية للولايات المتحدة في كسر الارتباط الاقتصادي الوثيق بين روسيا وأوروبا، وتحويله إلى اعتماد كامل على أمريكا.
وهذا ما بدى واضحاً خلال العام الأول من الحرب، حيث دفعت أزمة الطاقة الأوروبية بالولايات المتحدة الأمريكية إلى المركز الأول عالمياً في تصدير الغاز المسال، بعد أن ارتفع حجم الطلبات الأوروبية على الغاز الأمريكي وبأسعار أعلى من الغاز الروسي، وساهمت ثورة الغاز الصخري، إلى جانب استثمارات بمليارات الدولارات في مرافق التسييل، إلى تحويل الولايات المتحدة من مستورد للغاز الطبيعي المسال إلى أكبر مصدر في العالم متجاوزة نظيراتها قطر واستراليا المعروفتان بطاقتهما الكبيرة في التصدير.
كما تجلب الحرب في أوكرانيا عشرات المليارات من الدولارات إلى المجمع الصناعي العسكري الأمريكي لتزويد دول أوروبا المجاورة لأوكرانيا بالأسلحة لحمايتها من المد الروسي المزعوم، وكلما طال أمد الحرب واتسع نطاقها، زاد تدفق هذا التيار بالكامل نحو واشنطن.
وسعت أمريكا إلى زيادة أرباحها من الحرب عبر إصدارها “قانون خفض التضخم” رغم استياء الدول الأوروبية، حيث اعتبره مراقبون تكريساً لمبدأ “أمريكا أولاً” كونه يهدف- تحت غطاء خفض التضخم- إلى تشجيع الشركات المحلية والأجنبية على نقل قواعد إنتاجها نحو الولايات المتحدة، والسماح للشركات الأمريكية باكتساب ميزة تنافسية على حساب الإضرار بالصناعات الأوروبية، خاصة مع كم الإعانات التي يمنحها القانون للشركات العاملة في أراضي الولايات المتحدة، إضافة إلى الفجوة بين أسعار الطاقة المنخفضة نسبياً في أمريكا مقارنة بأسعارها في أوروبا.
من جانب آخر تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية منذ اندلاع الحرب من زيادة أرباح مبيعاتها من القمح بعد أن قفز سعر الطن إلى أكثر من 410 دولارات بداية الحرب مقابل نحو 260 دولاراً أواخر العام 2021 مدفوعاً بمخاوف دول العالم المستوردة وتقارير القلق الأممي حول أزمات الغذاء والمجاعة التي تهدد العالم، خاصةً وأن الدولتين طرفي الصراع من أهم مُصدِّري القمح في العالم، حيث تعتبر روسيا ثالث مُنتِج للقمح في العالم، بنحو 86 مليون طن، وأوكرانيا التاسعة عالميّاً بـ27 مليون طن، بينما تحتل أمريكا الترتيب الرابع عالمياً بنحو 47 مليون طن سنوياً.
الرهان الروسي على تصدع الموقف الأمريكي الأوروبي
مع استمرار الحرب يتواصل نزيف الاقتصاد الأوروبي، فيما تتعاظم الأرباح الأمريكية لتفضح كذب رواية واشنطن عن الأطماع الروسية التي تشبهها – عبر آلتها الإعلامية الضخمة – بالنازية الجديدة تجاه أوروبا.
وهذا ما باتت تدركه العديد من الدول الأوروبية بعد وصولها إلى حالة عدم القدرة على التحمل، وتوشك أن تتحول في موقفها من الإجماع الأوروبي حيال الحرب الروسية الأوكرانية التي كلفتها من الأعباء ما لم تكن تتخيل، ناهيك عن تزايد الضغوط الشعبية وتعالي الأصوات المعارضة لاستمرار الحرب أو التدخل فيها، بالإضافة إلى استمرار التظاهرات والإضرابات في العواصم الأوربية على ضوء ارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم والبطالة بعد إغلاق الكثير من المصانع بسبب أزمة الطاقة.
بذور الخلاف الأوروبي الأمريكي عبرت عنها تصريحات الرئيس الفرنسي “ماكرون” خلال زيارته لأمريكا في نوفمبر 2022 التي انتقد خلالها الإجراءات الاقتصادية الأمريكية وعلى رأسها “قانون خفض التضخم” واصفاً إياها بـ”شديدة العدوانية، وتهدد بتفتيت الغرب” محذراً في الوقت نفسه من “خطر أن تذهب أوروبا عموماً وفرنسا تحديداً، ضحية التنافس التجاري الراهن بين واشنطن وبكين، أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم”، وشدّد ماكرون على أن “قضايا الطاقة وتكلفة الحرب في أوروبا ليست هي نفسها في الولايات المتحدة”.
أصوات الاعتراض على الانتهازية الأمريكية لم تقتصر على كبار الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، بل بدأت هذه الأصوات تُسمع من الدول الصغيرة الأكثر اعتماداً على المنتوجات والطاقة الروسية، وكان أبرزها تهديد رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، باستخدام الفيتو ضد تمديد العقوبات على روسيا.
استشعار دول أوروبا بخطر الانفجار الاجتماعي والاقتصادي الذي قد تواجهه جراء انسياقها مع المخطط الأمريكي، يهدد بتصدع الموقف الغربي، وهذا ما راهنت عليه موسكو منذ بداية الحرب.