خاص- يمن إيكو
في غضون خمسة عقود أصبح اقتصاد ماليزيا ثالث أكبر اقتصاد في جنوب شرقي آسيا، والخامس والثلاثين عالمياً، ويعد الاقتصاد الماليزي اقتصاداً قوياً ومتنوعاً للغاية، حيث بلغت قيمة صادرات منتجات التكنولوجيا الفائقة 57.258 مليار دولار أمريكي في عام 2015، وهو ثاني أعلى معدل بعد سنغافورة في آسيان، وتعد ماليزيا من أكبر منتجي القصدير والمطاط في العالم، وهي الثانية عالمياً في تصدير منتجات زيت النخيل بعد إندونيسيا.
على مستوى الفرد ارتفعت مستويات المعيشة من 350 دولاراً كدخل سنوي للمواطن الماليزي عام 1963م إلى 30.815 دولار عام 2018 محتلة بذلك المرتبة الـ 48 عالمياً، والثانية في جنوب شرقي آسيا.
مؤشرات التنمية العالية في ماليزيا تقف وراءها محطات اقتصادية فارقة في تاريخ ماليزيا، بعد أن كانت دولة غارقة في التخلف لا يعرف أهلها سوى زراعة الأرز واستهلاكه، وأغلب سكان كوالالمبور لا يعرفون الكهرباء والطرق الممهدة ويسكنون الأكواخ.
– مخلفات الاستعمار تهدد الدولة الوليدة
عانت ماليزيا من الاستعمار الغربي على مدار 500 عام، بدءاً من الاستعمار البرتغالي ثم الهولندي ثم الاستعمار البريطاني الذي بدأ عام 1665 وانتهى عام 1957م، أي ما يقارب ثلاثة قرون، استنزف خلالها الاستعمار البريطاني خيرات البلاد وكرس الجهل والتخلف في أوساط شعب الملايو (السكان الأصليين لماليزيا)، واستقدم العمالة من الصين والهند الذين مثلوا بعد الاستقلال الأقلية المسيطرة على 70% من الاقتصاد الماليزي، وكادت أن تعصف بالاتحاد الماليزي الصدامات الدامية بين الصينيين الذين يمثلون أقلية، والملايو الذين يمثلون أكثرية السكان، بسبب اختلال التوازن الاقتصادي بين المجموعتين، وذلك نتيجة التفاوت الكبير في مستويات المعيشة والتوزيع غير العادل للثروة.
واستوجب ذلك بداية مسارات الإصلاح والتغيير من قبل الحكومة، من خلال إعادة هيكلة المجتمع الماليزي، وذلك باتباعها لعدة سياسات تشكل ركيزة أساسية لخطط التنمية في البلاد، جاءت في مقدمتها السياسة الاقتصـادية الجديدة، كسياسة أساسية لإعادة هيكلة المجتمع، ومن ثم تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وإن كانت قد انطلقت من أسس عرقية ترتبط بتحقيق وضع أفضل للسكان الأصليين والملايو بصـفة خاصة.
حيث قام تون عبد الرزاق، الذي كان رئيساً للوزراء في ذلك الوقت، بتنفيذ سياسة التمييز الإيجابي كسياسة اقتصادية جديدة، حيث كانت معدلات الفقر بين الملايو مرتفعة للغاية (65%) كما زاد السخط بين العرقيات، وخاصة تجاه الصينيين.
من خلال السياسة الاقتصادية الجديدة، حصلت أغلبية الملايو على الأولوية والامتيازات الخاصة في مجال التطوير العقاري، والقبول في المنح الدراسية وكذلك ملكية الشركات المدرجة في البورصة.
وهذا ما ساهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي والحكومي في ماليزيا، وساعد على تحقيق أهداف السياسة الاقتصادية الجديدة وعملية التنمية التي بدأت في مطلع السبعينيات.
– دينامو النهضة
“إن الله لا يغير مصير أمة إلا إذا حاولت الأمة نفسها أن تتحسن” مهاتير محمد
لا تكاد تذكر النهضة الماليزية إلا ويذكر معها مهاتير محمد، الذي مثل نقطة فارقة في تاريخ الاقتصاد الماليزي منذ توليه رئاسة الوزراء في بداية الثمانينيات.
وجد الماليزيون أنفسهم أمام مفترق طرق بين تقليد النموذج الغربي للتنمية أو الاتجاه شرقاً للاستفادة من تجربة دول شرق آسيا، كاليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونغ وسنغافورة.
اختارت ماليزيا الاتجاه شرقاً في محاولة لتقليد اليابان، التي كانت تحتل مكانة عالمية وإقليمية على كافة المستويات وخاصة التصنيعية، حيث تجاوز حجم إجمالي الناتج المحلي الياباني عدة مرات إجمالي الناتج المحلي لدول شرق آسيا مجتمعة خلال عقد الثمانينيات.
وترى ماليزيا أن الاستراتيجية التي انتهجتها اليابان في إنتاج سلع جيدة بأسعار زهيدة ساهمت بشكل كبير في تحقيق تفوقها على المنتجات الأوربية والأمريكية ذات الأسعار المرتفعة، وبالتالي نجحت في السيطرة على أسواق آسيا وأفريقيا.
ويقول مهاتير محمد حول هذه النقطة: “عندما أردنا أن نصلي توجهنا إلى مكة، وعندما أردنا التقدم توجهنا صوب اليابان”.
انتقد مهاتير محمد بشكل كبير سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين ورفض الانصياع لها، كونها تكرس التبعية وانتهاك سيادة الدول من خلال سياسة الإقراض والفائدة، وقرر مهاتير الاعتماد على الذات في تحقيق التنمية الاقتصادية في ماليزيا.
حيث ركز في البداية على تحفيز النمو، من خلال تطبيق عدد من الحزم المعيارية لتنشيط نمو الناتج المحلي الإجمالي، وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وحققت ماليزيا خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين نمواً وازدهاراً فاق كل التوقعات، حيث بلغ معدل النمو السنوي في ماليزيا 8% طوال عقد التسعينيات.
فضلاً عن أن هذا النمو قام على أساس صناعي وإنتاجي، ترافق مع ازدهار غير مسبوق لكل الأعراق في الدولة، وأصبح بإمكان الحكومة اتخاذ إجراءات أكثر تحررية في المجال الاقتصادي.
– فلسفة التنمية الماليزية.. (عدالة، مساواة، وانتماء وطني)
تقوم فلسفة التنمية في ماليزيا على فكرة أن التنمية الاقتصادية والبشرية تقود إلى المساواة في الدخل، ولذلك لابد وأن تنعكس مكاسب التطور الاقتصادي على حياة الفرد بمختلف مناحيها، كتوجيه الاهتمام نحو ترقية المنظومة التعليمية والنهوض بها، مما يؤدي إلى خلق سياق تنموي متكامل ينعكس على تحسين باقي القطاعات، بشرط أن يكون الفقراء والعاطلون عن العمل والمجموعات العرقية هم أول المستفيدين من ذلك، ولا شك أن الإيمان بهذه الفلسفة دافعه الأول أن العلاقة بين زيادة النمو ومستوى الفقر عكسية، لأن وصول الفقراء إلى تعليم أفضل وإلى صحة أفضل قد ساهما بفعالية في عملية تسريع وزيادة معدلات النمو الاقتصادي.
ورغم السير على هدي هذه الفلسفة المستنيرة في تحقيق التنمية المرجوة إلا أن مهاتير محمد واجه الكثير من المشاكل والصعاب التقليدية الشائعة في الشعوب النامية مثل: انتشار الجهل والأمية، وانعدام المهارات الإنتاجية، وغياب روح الإبداع والمغامرة، والميل الأصيل إلى الكسل، إضافة إلى الهزيمة النفسية وانعدام الطموح وعدم الرغبة في التعلم أو النهوض والتقدم، وكانت هذه هي السمات الأساسية وراسخة في وجدان الشعب الماليزيـ خاصة السكان الأصليين (الملايو)- ولكن استطاع مهاتير محمد تجاوز هذه الصعوبات من خلال تحفيزه المستمر للملايو وتخفيف الامتيازات التي كانت تمنح لهم إلى أن انتهت تماماً، كما عمل على تعزيز الهوية الوطنية وشعور الانتماء إلى ماليزيا الواحدة مما ساهم في إذابة الفروق العرقية والطبقية واندماج المجتمع في مسيرة التنمية.
– مراحل التنمية في ماليزيا
بعد الاستقلال، تم اللجوء إلى الاستراتيجية التقليدية، وهي الإحلال محل الواردات، وكانت البداية التركيز على صناعات السلع الاستهلاكية التي كان معظمها مملوكاً لشركات أجنبية، وبالفعل تكونت نواة صناعية، عبارة عن صناعات صغيرة كصناعة الأغذية، ثم تطور الأمر لصناعة مواد البناء والطباعة والبلاستيك والمواد الكيميائية، وساندت الدولة هذه الخطوة الناجحة بإصدار قانون تشجيع الاستثمار في 1968، لجذب الاستثمارات الأجنبية بهدف زيادة القاعدة الصناعية، وبالفعل حدث توسع كبير في إنتاج زيت النخيل والخشب والمطاط والكاكاو، وشهد القطاع النفطي تطوراً كبيراً وضع ماليزيا على خارطة الدول المصدرة للبترول والغاز.
حقبة السبعينيات شهدت بداية التوجه للتصدير في عمليات التصنيع، والتركيز على صناعة المكونات الإلكترونية وبعض المنتجات التصديرية. وقد اتسمت هذه الصناعات التصديرية بأنها كثيفة العمالة، مما نتج عنه التوسع الكبير في زيادة حجم العمالة، وبالتالي انخفاض معدل البطالة وتحسنت إنتاجية العمل.
الفترة 1981 – 1985 تمثل بداية مسيرة التنمية الحقيقية، وتسمى “فترة التصنيع الثقيل”، حيث تركزت عملية التنمية في خلق موجة جديدة من الصناعات التي تقوم بعمليات الإحلال محل الواردات وكذلك الصناعات الثقيلة في إطار ملكية القطاع العام، وهي عبارة عن خمس مناطق صناعية في ماليزيا شكلت صادراتها نحو 85% من إجمالي صادرات ماليزيا عام 2008.
فترة التحرر الاقتصادي 1986 – 2000 حيث تبلور في هذه الفترة مشروع مهاتير محمد في التنمية الاقتصادية المنفتحة على العالم الخارجي من دون التخلي عن المقومات الاقتصادية والقيم الوطنية، ونتج عن هذه الخطط تحقيق معدلات نمو عالية وجذب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في ماليزيا من خلال مجموعة واسعة من المزايا الاستثمارية.
وشهدت ماليزيا طفرة اقتصادية وتطوراً سريعاً، أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي 383.6 بليون دولار عام 2009، وتبعاً للتقارير الاقتصادية ستصبح ماليزيا بحلول 2050، في الترتيب 21 كأكبر اقتصاد في العالم، بناتج محلي إجمالي يصل إلى 1.2 تريليون دولار.