يمن إيكو|تقرير:
منذ بداية تحرك الولايات المتحدة عسكرياً لمواجهة عمليات قوات صنعاء المساندة لغزة، أواخر العام الماضي، أظهر الجيش الأمريكي افتقاراً واضحاً للرواية المنطقية والمقنعة في عدة جوانب، كان منها الخسائر التي منيت بها القوات الأمريكية خلال المواجهة في البحر الأحمر، فعندما لم تكن القيادة المركزية الأمريكية تمارس التكتم، كانت تخرج ببيانات أقل ما يقال عنها إنها مرتبكة تماماً حيث تتحدث عن حوادث غريبة يصادف دائماً أنها تقع بعد عمليات عسكرية تنفذها قوات صنعاء فوراً.
في منتصف يناير الماضي قالت القيادة المركزية الأمريكية في بيان رصده “يمن إيكو”، إن جنديين من البحرية الأمريكية فُقدا “أثناء قيامهما بعمليات قبالة سواحل الصومال” قبل أن يتم إعلان مقتلهما بعد عشرة أيام.
وكانت الرواية التي قدمها الجيش الأمريكي آنذاك لمقتل الجنديين هي أنهما سقطا أثناء صعودهما على متن “مركب شراعي كان يحمل مكونات صاروخية مصنوعة في إيران”، وهي رواية تفتقر بوضوح إلى الكثير من المنطق والواقعية، وتثير أسئلة يمكن أن تصبح ساخرة عما إذا كان الجنديان في البحرية لا يستطيعان السباحة، أو أن القوات الأمريكية لم تكلف نفسها عناء الاقتراب منهما بقارب إنقاذ فور سقوطهما، خصوصا وأن القيادة المركزية لم تشر إلى وجود أي مسلحين على متن المركب الشراعي المزعوم.
وبعيداً عن رواية الجيش الأمريكي، فإن مفتاح الإجابة كان يكمن في توقيت الإعلان عن فقدان الجنديين، حيث قالت القيادة المركزية الأمريكية إن ذلك وقع في 11 يناير، على بعد 24 ساعة فقط، وربما أقل، من إعلان قوات صنعاء عن تنفيذ “عملية عسكرية مشتركة بعددٍ كبيرٍ من الصواريخِ البالستيةِ والبحريةِ والطائراتِ المسيرةِ استهدفتْ سفينةً أمريكيةً كانتْ تقدمُ الدعمَ للكِيانِ الصِّهيوني”، بحسب بيان عسكري رصده “يمن إيكو” وقتها، وقال إن تلك العملية كانت “رداً أوليّاً” على الهجوم الأمريكي الذي قتل 10 من قوات صنعاء في البحر الأحمر في ديسمبر 2023.
وقد وصفت القيادة المركزية الأمريكية وقتها تلك العملية بأنها “هجوم معقد”، وذكرت أن حاملة الطائرات (أيزنهاور) وثلاث مدمرات حربية شاركت في التصدي له، وهو ما يجعل إصابة الجنديين بالهجوم أكثر ترجيحاً بكثير من فرضية سقوطهما من على متن مركب شراعي أثناء عملية تفتيش روتينية مزعومة.
بعد قرابة عام على هذه الحادثة، أصدرت القيادة المركزية الأمريكية، هذا الأسبوع، بياناً (لم تنشره على موقعها الرسمي ووزعته لوسائل الإعلام) قالت فيه إنه تم إسقاط مقاتلة من نوع (إف-18) بـ”نيران صديقة” من قبل السفينة الحربية (يو إس إس جيتيسبيرج) في البحر الأحمر، واكتفت بذلك فاتحة الباب لسيل من الانتقادات التي شككت في هذه الرواية بل وسخرت منها لأنها لم تقدم أي تفاصيل منطقية، لأن مقاتلات (إف-18) لا تشبه الطائرات المسيرة أو الصواريخ، كما أنها تمتلك اتصالاً تقنياً معقداً ومباشراً بمجموعة حاملة الطائرات التي تتبعها.
ومرة أخرى كان الجواب في التوقيت، حيث كان الجيش الأمريكي قد أعلن في اليوم نفسه عن تنفيذ غارات على اليمن شاركت فيها طائرات (إف-18) تابعة لمجموعة حاملة الطائرات (يو إس إس هاري إس ترومان)، وقال إنه في نفس توقيت الغارات تم الاشتباك مع طائرات مسيرة وصواريخ أطلقتها قوات صنعاء، وهو ما يضيق دائرة الاحتمالات، ويحصر الحقيقية بين احتمالين: فإما أن قوات صنعاء قد أصابت الطائرة أو أنها أربكت القوات الأمريكية ودفعتها لإصابة الطائرة بالخطأ.
وقد تكفلت قوات صنعاء بحسم المسألة وأوضحت أنها هاجمت مجموعة (ترومان) بثمانية صواريخ و17 مسيرة، وتسببت في إرباك السفن الحربية التي أصابت المقاتلة الأمريكية أثناء محاولتها إسقاط تلك الصواريخ والمسيرات، وهو ما أعاد تسليط الضوء على افتقار الجيش الأمريكي للرواية المقنعة بشأن البحر الأحمر، وخصوصاً فيما يتعلق بخسائر القوات الأمريكية.
وما بين مقتل الجنديين في يناير وإسقاط الطائرة المقاتلة في ديسمبر، أظهر الجيش الأمريكي افتقاره إلى الرواية المقنعة، في عدة مناسبات أخرى، كان منها الإعلان في أكتوبر الماضي عن مقتل اثنتين “من أفضل الطيارين في الولايات المتحدة”، بحسب وصف الرئيس جو بايدن، وذلك بعد “فقدانهما” أيضاً بسبب ما قال الجيش الأمريكي إنه “تحطم لطائرتهما من نوع (إي إيه-18 غراولر) في جبل رينيه في واشنطن، بدون الحديث عن سبب تحطم طائرة الحرب الإلكترونية المتطورة التي تعتبر نسخة من مقاتلات (إف-18).
هذه المرة أيضاً كان الجواب يكمن في التوقيت، لكن بشكل مختلف، فالطائرة التي (تحطمت فجأة) كانت قد عادت إلى الولايات المتحدة “بعد فترة انتشار موسعة في الشرق الأوسط للدفاع ضد هجمات الحوثيين بالصواريخ والطائرات بدون طيار في البحر الأحمر”، حسب تعبير بايدن وقتها، حيث كانت الطائرة جزءاً من وحدة “غراولر” التابعة لحاملة الطائرات (أيزنهاور)، وهي الوحدة التي تم الإعلان أنها نفذت أول عملية اعتراض (جو-جو) في تاريخ البحرية بعد الاشتباك مع طائرة مسيرة يمنية.
ووفقاً لـ”سي إن إن” فإن إحدى القتيلتين كانت قد “شاركت في ضربات قتالية متعددة ضد المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن، مما يجعلها واحدة من أوائل النساء اللواتي نفذن مهام قتالية فوق الأرض، وفقاً للبحرية. كما حصلت على ثلاث ميداليات لمساهمتها في المهام التي نفذتها بين ديسمبر ومارس الماضيين”.
ووفقاً لذلك يبدو أن احتمال تحطم الطائرة أبعد بكثير من احتمال مقتل الجنديتين خلال المواجهة في البحر الأحمر، خصوصاً وأن حاملة الطائرات (أيزنهاور) تعرضت مع مجموعتها من المدمرات لعدة هجمات يمنية قبل مغادرة المنطقة.
وقد وقع الجيش الأمريكي في المأزق نفسه عندما عجز عن التعامل مع تعرض حاملة الطائرات (أيزنهاور) لضربات من قوات صنعاء، فبعد إنكار وقوع تلك الهجمات تماماً في يونيو الماضي، انكشف مؤخراً أنها عجزت عن التصدي لصاروخ واحد على الأقل اقترب لمسافة 200 متر من إصابتها، وقد وجه ذلك ضربة لمصداقية القيادة المركزية، فعندما أعلنت هذا الأسبوع عن إسقاط طائرة (إف-18) بنيران صديقة، كتب محلل الأمن القومي في مجلة ناشيونال إنترست براندون ويشيرت على منصة إكس: “تصر البحرية على أن الحادث كان نيراناً صديقة وأن الأمر سيتم التحقيق فيه بدقة، ولكن هذه هي البحرية نفسها التي ادعت أنه لم يحدث شيء على الإطلاق خلال الصيف لحاملة الطائرات الأمريكية (دوايت د. أيزنهاور)، وما نعرفه الآن هو أن صاروخاً باليستياً مضاداً للسفن أطلقه الحوثيون اقترب لمسافة 200 متر من حاملة الطائرات الأمريكية أيزنهاور خلال الصيف”.
ووفقاً لكل ما سبق، يبدو بوضوح أن الجيش الأمريكي يمارس تضليلاً واضحاً بخصوص خسائره في البحر الأحمر، ولكنه ليس تضليلاً متماسكاً بما يكفي، فحتى إن أغفلت وسائل الإعلام الأمريكية طرح الأسئلة بخصوص رواية القيادة المركزية، فإن وتيرة عمليات قوات صنعاء التي لم تتمكن القوات الأمريكية من خفضها أو منع خروجها عن السيطرة، تشكل تحدياً فورياً لتلك الرواية في كل مرة.